تعرف على رائدُ الروايةِ النفسيةِ في القرنِ التاسعَ عشر.. دوستويفسكي
وُلد (فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي) عامَ 1821، لأبٍ كان يعمل جرّاحًا، وكان سِكِّيرًا حادَّ الطِّباعِ وسريعَ الانفعال، ولأمٍّ هي ابنةُ أحدِ التُّجّارِ الرُّوس، تسكنُ في حيٍّ بائسٍ فيه المشفى الذي يعملُ فيه أبوه، وفي الحيِّ كذلك دارٌ للأيتام، ومَقبرةٌ للمجرمين. وقد ترك هذا الأمرُ أثرًا واضحًا في كتاباتِ دوستويفسكي لاحقًا. هذا إلى جانبِ علاقتِه بوالدِه القاسي، والتي لعبتْ دورًا أساسيًّا في رسمِ شخصيةِ الأبِ في روايةِ (كارامازوف).
ورغمَ نجاحِه في كليةِ الهندسةِ العسكرية، إلا أنّه تركَ الخدمةَ وهو ملازمٌ أول. تعمّقَ في الكتابةِ ولاقتْ روايتُه الأولى (الفقراء) استحسانًا لدى النُّقاد، إذْ قال الشاعرُ الروسيُّ الكبير (نيكولاي نيكراسوف): «إنّ (غُوغول) جديدًا قد ظهر، وبهذا غدا دوستويفكسي شخصيةً أدبيةً يُشارُ إليها بالبَنانِ وهو في الرابعةِ والعشرينَ من عمرِه».
في نيسان عامَ 1849، اعتُقِلَ دوستويفسكي بتهمةِ انتمائِه إلى جمعيةٍ سرِّيَّةٍ تُعنَى بالفكرِ الليبراليّ، وحُكمَ عليه هو ورِفاقُه بالإعدام، لكنّ الحكمَ قد استُبدِلَ بالنفيِ إلى سيبيريا في اللحظاتِ الأخيرة. هناك حيث قضى فترةَ عقوبتِه كلَّها مُقيَّدَ القدمين بالسلاسل. وقد عانَى الأمَرَّيْن من القذارةِ وسوءِ المعاملة، فانعكسَ هذا كلُّه على كتاباتِه.
ما الذي يجعلُنا نتأثرُ بشخصياتِ دوستويفسكي ونتعاطفُ معها؟
كثيرًا ما سمعْنا عن (عبقريةِ دوستويفسكي)، تلك العبقريةُ التي تجلّتْ في اختيارِه لشخصياتٍ بائسةٍ تعيسةٍ لتكونَ محورَ رواياتِه. وقد لا نشعرُ للوهلةِ الأولى بأنّ هناك قاسمًا مشتركًا بيننا وبين أولئك الذين يصفُهم الكاتب، من المشرَّدين، والفوضويِّين، والسُّكارَى والمُدمنين، وأشباهِ القدِّيسين، وقتلةِ آبائِهم، والمُصابين بالهستيريا، ولكنْ مع ذلك فنحن نشعرُ بأننا نعرفُهم، وأنهم مألوفون لدينا. فكيف يمكنُ تحليلُ هذا التجاوبِ والتعاطُفِ معَهم ما داموا أشخاصًا مرضَى ونحن أسوياء؟
في الحقيقة، إنّ مجانينَ دوستويفسكي ليسوا مجانينَ إلى الحدِّ الذي نتوهَّمُه، بل إنّ كلَّ ما في الأمر أنهم ما لا نجرؤُ أن نكونَه! إنهم يفعلون ويقولون ما لا نجرؤُ أنْ نفعلَه أو نقولَه! وعليه، نجدُ أنّه قد دخلَ في العديدِ من المِجَسَّاتِ النفسيّةِ الأوديبيّةِ والسَّادِيّةِ والمازُوخيّةِ، والانفصام، معتمِدًا في كثيرٍ من الأحيان على تجارِبِه الحياتيّة.
وعلينا ألا ننسى أنّ معظمَ رواياتِه تدورُ حول فكرةٍ محوريّةٍ، هي الصراعُ بين الخيرِ والشرّ. إذْ برزتْ واضحةً في (الجريمةُ والعقاب) تحتَ تأثيرِ الأفكارِ الأخلاقيةِ لفعلِ الجريمةِ والقتل، وفي (الأبلَه) ظهرت بارتباطِ الفكرةِ الجماليّة، وكيف يمكنُ أنْ يعيشَ إنسانٌ مطلقَ الجمالِ في بيئةٍ إنسانيةٍ طبيعية.
ماذا عن فلسفتِه الوُجودية؟
لقد أصبحَ موضوعُ الشخصيةِ الإنسانيةِ الضائعة ، الموضوعةِ في ظروفِ العُزلةِ التراجيديّة ، فاقدةِ الإحساسِ بوَحْدَتِها وانسجامِها مع العالم ، أصبحَ من المواضيعِ الرئيسةِ في أدبِ القرنِ العشرين. وعمليةُ تحوُّلِ البطلِ إلى بطلٍ مضادٍّ يعي اغترابَه عن العالم، كثيرًا ما ترتبطُ بتأثيرِ الفلسفةِ الوُجوديّة.
وإذا ما حاولْنا الكشفَ عن منابعِ هذه الظاهرةِ في الأدب، فكثيرًا ما يتردَّدُ اسمُ دوستويفسكي.
إذْ يقولون إنّ نوعيةَ القضايا التي طرحَها في أعمالِه، من القضايا المهمّةِ لتقريرِ مسألةِ الوجودِ الإنسانيّ، مثلًا: (الشعورُ بالحياةِ كمأساةٍ وصراع) ، و(المطالبةُ بالحريةِ وتحمُّلُ مسؤوليّتِها) ، و(البحثُ عن أصالةِ الوُجود)، فضلًا عن أنّها كلَّها تطرحُ مصيرَ الشخصيةِ الفردية، والأهميةَ العُليا للشخصيةِ الإنسانية ،عَدَا عن فكرةِ النزاعِ بين الفردِ والمجتمع.
وبالرغمِ من كلِّ ما قدَّمَه هذا الكاتبُ للأدب، فإنّ علينا أنْ نعلمَ أنّ صاحبَ (الإخوةُ كارامازوف) لم يكن مُرَفَّهًا على غِرارِ (تورغنيف)، و(تولستوي)، و(غونتشاروف)، فبينما كان الناشرون يتنافسون على طباعةِ رواياتِ هؤلاء، كان على دوستويفسكي أنْ يعرِضَ أعمالَه على المجلات، لتخفيفِ قائمةِ الدُّيونِ التي احتاجَ إلى 30 عامًا لتسديدِها.
ويُذكر أنّه كان يكتبُ روايتين معًا، هما (الجريمةُ والعقاب) و(المقامر)، ليسدِّدَ الدُّيونَ المترتبةَ عليه ، كي لا تُصادَرَ حقوقُ أعمالِه جميعِها من قبل الناشر.
وكانت تساعدُه في ذلك فتاةٌ تُدعى (آنا غريغوريفنا)، التي أصبحت زوجتَه فيما بعد، والتي كانت تكتبُ له رواياتِه بالطريقةِ (الاختزالية)، حتى تختصرَ له الوقتَ، وتُسلَّمَ أعمالُه في الموعدِ المحدَّد.
أُعجِبَ دوستويفسكي بـ(جان جاك روسو)، حتى إنّه ركعَ أمامَ بابِ بيتِه عندما زارَ جنيف.
وكان لأدبِ (بلزاك) صدًى في مؤلَّفاتِه ، فضلًا عن اهتماماتِه بأدبِ (فولتير) و(ديدرو). ونلاحظُ تأثيرَ (كانديد) في (الإخوةُ كارمازوف)، وتأثيرَ (ديدرو) في (الأبلَه) و(رسائلُ مِن تحتِ الأرض).
– فرويد: «دوستويفسكي معلمٌ كبيرٌ في علمِ النفس. لا أكادُ أنتهي من بحثٍ في مجالِ النفسِ الإنسانيةِ، حتى أجدَ أنّ دوستويفسكي قد تناولَه قبلي في مؤلَّفاته».
– نيتشه: «دوستويفسكي معلمُ النفسِ الوحيدِ الذي استفدتُ منه».
– غوركي: «إنّ هذا الكاتبَ صوَّرَ لنا صفاتِ المظلومينَ وخصائصَ الإنسانِ عبر القرون، كما أنّ عبقريَّتَه يمكنُ مقارنتُها بعبقريّةِ شكسبير».
– ميخائيل نعيمة: عَدَّه قدرةً إبداعيةً شاملة، إذْ لا يستطيعُ حشدٌ كبيرٌ من رجالِ الدينِ وعلماءِ النفْسِ والاجتماعيِّينَ تقديمَ عملٍ كـ(الإخوة كاراموزف).
– كما يُروى أنّ تولستوي كان يبكي عندما يقرأُ روايةَ (بيتُ الموتى)، وكان يقول: «لولا وجودُ الكتابِ المقدَّس، لقلتُ إنّ هذا هو الكتابُ المقدس».
في الـ 26 من كانونَ الثاني عامَ 1881، حَملَ دوستويفسكي الإنجيلَ، وفتحَ منه صفحةً بغيرِ تعيينٍ وقرأ : «وإذا السمواتُ انفتحتْ فرأى روحَ الله» ، ثم نظرَ إلى زوجتِه قائلًا: «ألم أقلْ لكِ إنّني سأموت الليلة؟».
وفي اليومِ الـ27 ، غفا دوستويفسكي إلى الأبد، وشُيِّعَ جُثمانُه في الأولِ من شباط، عامَ 1881، في موكبٍ مَهيبٍ لم تشهدْ بطرسبورغ له مثيلًا، إلا في مقتلِ الإمبراطورِ ألكسندر الثاني. فكانت مَقبرةُ كنيسةِ القِدِّيسِ (ألكسندر نيفكسي) تحنُو على رُفاتِه، تاركًا أعمالًا أدبيّةً عظيمةً نذكرُ منها: (المقامر)، (الفقراء)، (الشياطين)، (رسائلُ مِن تحتِ الأرض)، (المراهق)، (الأبله)، (الجريمةُ والعقاب)، (الإخوةُ كارامازوف).