سجن الفراشة ” قصة واقعيّة ” ( 12 )

اقرأ : الجزء الحادى عشر

مضى أكثر من سنة على وجودي في طرابلس، حين وصلتني رسالة منى. كان ذلك الاتصال الأول بيننا. الأحداث الأمنيّة والحرب الدائرة في البلاد وسوء الاتصالات الهاتفيّة، أبعدونا خلف محيطات نائية. مرّت الرسالة على رقابة موسى، الذي بحث فيها عن بعض المال فخاب ظنّه. أعادت كلماتها الروح إلى عروقي، ورفعتني قليلاً فوق الوهن والضعف. “حافظي على حرارة روحك وخميرة إيمانك. أحبّك وأنتظر لقياك بشوق يفوق حرقة المسافات. حاولي أن تزوريني في أقرب فرصة، فغيوم الحرب بدأت تنقشع والانتقال من ضفة إلى أخرى بات أقرب إلى المعقول…”.

حملتُ الرسالة وطفت بها من غرفة إلى أخرى. خاطبتني كأنها تسكن أوجاعي ومعاناتي. سأعود إليك منى، سأعود قريباً. لن أدعهم يحطمونني هنا أكثر من ذلك.

توجّهت إلى موسى، تسبقني صلاتي ويحملني عزم لا يلين. لا أعرف ما الذي ساعدني أكثر الصلاة أم العزم، ولكنني فوجئت بقبوله السريع بزيارتي منى. لجأت إلى حيلة صغيرة سندت فيها موقفي. أقنعته بأنني سأجلب معي مالاً لدى عودتي،  فانفرجـت أساريره لهذه الصفقة المربحة.

شهر بأكمله قضيته في حضني الدافئ، أتمتّع بالعطف والحريّة. اشتعلت أمومة منى في هذه الفترة، وبدأت تشعر بأنني سأكون ابنتها إلى الأبد.

كانت صحة جدتي ماري هزيلة ومتداعية، فسررت باللقاء بها، وقدّرت أنها قد تكون تعيش الفصل الأخير من حياتها. عرفت جفوني النوم الهادئ من جديد، واجتاحتني السكينة.

بعد عودتي إلى أهلي، شعرت أن الأمور ستتغيّر من الآن فصاعداً. ارتاح موسى للمال السهل الذي كسبه، وبدأ يسمح لي بالعودة إلى بيروت كلّ مرّة أسأله ذلك. توقّفت منى أخيراً عن مدِّي بالمال، وقالت إن عليَّ أن أقف في وجه ابتزاز أخي. حين علم بالأمر راح يشتمها ويلعنها ومنعني من زيارتها. ومع ذلك واظبت على زيارتها بدون علمه، وبتغطية من أمي التي أجهل لماذا قامت بهذا العمل النادر من أجلي.

عادت رانيا وإلهام إلى البيت تحملان جروحاً عميقة، نتيجة سنوات الاستخدام والانمزاق. إلهام، أصغر شقيقاتي، بدت كالموتورة في تصرفاتها. إضافة إلى هزالها الشديد وجسدها الهش، كانت أقرب إلى الجنون وبساطة التفكير. منطقها مشوّه وأحاديثها سخيفة وممزّقة. لم تصمد فرحتي بإعادة لمّ شمل المعذّبات مثلي، أكثر من أيام. سيطر النفور والتباين الجذري في الشخصيّات، على جو العلاقة بيننا، فبـردت حماستـي ونأيـت بأفكاري ومشاغلي برغم تجاورنا الجسدي.

انطلقت دوامة الاستخدام من جديد في عائلة موسى، الذي تدبّر عملاً لابنته الكبرى فاطمة وهي على أبواب عامها السادس. حاولت أن أمنع عبور المأساة على جثة أخرى، ففشلت. ذهبت إلى زوجته، وحرّضتها على الرفض. أطلعتها على بعض أحداث حياتي. “مزّقيه بأسنانك وأمومتك”، قلت لها. لكنها كانت أغبى من أن تواجه أمراً كهذا بمفردها. أخبرتْ زوجها عن حديثي معها، فكان نصيبي ضرباً مبرحاً وشتائم على قدر فساد أخي وانحطاطه.

لم تدم خطبتي “علي” طويلاً. زاد تعلّقه بي، وأرخت العلاقة بثـقلها على جنوحي إلى الطيران. برغم عطفه واهتمامه،  أرادني سجينة حياته الصغيرة ومحيط الحي الذي نعيش فيه. أزعجه تنقلي الدائم بين طرابلس وبيروت، والوقت الذي أمضيه برفقة الأطفال في إحدى الجمعيّات الخيريّة في منطقة “القبّة” المجاورة. كنت بدأت أنفتح على اهتمامات جديدة، وأحاول ملء وقتي بالعمل مع الطبقة المعذّبة للبشريّة. لم تنمُ مشاعري تجاهه، وأيقنت أن استمرار ارتباطي به، سيزيد الأمور تعقيداً.

في يومٍ ما، فاجأت هيام شتات عائلتي بحضورها. كانت شقيقتي من زوجة أبي الثانية، المرأة الأكثر لعنة واحتقاراً من قبل عائلتها. تزوّجت مرّتين، وانتقلت من رجل يلهث خلف النساء إلى رجل آخر، حياته محاطة بهالة من الغموض المثير للشكوك. مضى الجميع على صك وفاتها وأداروا لها ظهورهم. “زوجها شخص عكروت،  وهي اختارت أن تكون عاهرة عنده”. هذا كلّ ما كنت أسمعه عنها، ولم تكن تربطني بها أيّ علاقة مميّزة، وأنا الغائبة باستمرار عن محيطي وقبيلتي.

الجميع تـناتـشوا ذكرها كما يعلك الكلب عظمة شهيّة، وهي اختارت أن تبادلهم الرفض والاحتقار. لكنها قرّرت فجأة أن تستعيد علاقتها بلحمها ودمها، فجاءت بسيّارتها الفخمة وثيابها الفاضحة، ودارت على بيوت أشقائها وشقيقاتها توزّع عليهم المال والهدايا بسخاء المقتدر. لان الكثيرون عند تنشّقهم رائحة الدولارات، وتراجعوا عن مواقفهم العدائيّة. كان موسى أول المهلّلين والمتملّقين. أغراه عطر الثروة وبريق الأبهة والأناقة.

حين قابلت هيام، أظهرت حرارة واندفاعاً تجاهي.

– “لماذا تحقدين عليَّ؟” سألتني. “أهلي يكرهونني لأنني أعيش حرّيتي، وأتمتّع بالحياة. يريدون دفني في الفقر والتخلّف”.

– “أنا لا أحقد عليك، ولا أعرف عنك شيئاً حتى”، أجبتها.

– “خذي، هذا عنواني ورقم هاتفي. أريد أن نبقى على اتصال، ولكن لا تطلعي أحداً من أفراد عائلتي على العنوان”.

قرّرت أن أزورها في الخفية وأمضي عندها أياماً عدّة. لا أخفي أنني انبهرت بدوري برونق غناها، والمظاهر الخلابة التي أحاطت بها.

– “لماذا لا تكون لديّ أخت مختلفة؟” قلت في نفسي.

استغلّيت يوماً فرصة وجودي عند منى، فذهبت إلى بيتهـا فـي بلدة الرابية الراقية.

لم أتصوّر قط أن تكون حالتها على هذا القدر من الفخامة والثروة.

كان كلّ شيء في منزلها يوحي بالذوق والمال.

فاجأتها بحضوري، ففرحت بي واستقبلتني بحرارة حقيقيّة. صادفت فور دخولي صبيتين تلمعان بالحلي والثياب المشدودة على جسديهما، بشكل يكشف أجزاء فاضحة من اللحم الأبيض. لم أعر وجودهما أهمّية بالغة. جالستني أختي بثياب النوم، برغم أن الوقت كان ظهراً، ثم قدّمتني إلى زوجها الذي استيقظ بعد ساعات من وصولي، فأظهر بشاشة وترحيباً.

أمضيت الأيام الثلاثة الأولى في تواتر بين صخب وعجقة زوّار في الليل، يليهما فراغ نهاري عارم. سهرات تطول حتى الصباح، يتخلّلها الكحول والضحكات القوّية وعبق دخان السجائر والنارجيلة والأجساد المتقاربة والمتلامسة. آوي إلى فراشي باكراً والتساؤلات ترهقني. ماذا يفعل هؤلاء في منزل أختي كلّ ليلة؟ ماذا يعمل زوجها وهو الذي يمضي النهار نائماً؟ ما هو عمل الصبيتين اللتين تغادران المنزل مساء وتعودان في الصباح الباكر؟ وما هي علاقتهما بأختي؟

بدأت الشكوك تراودني. حاولت هيام إقناعي بالبقاء ساهرة معهم، فرفضت. لم تكن هذه الأجواء المشحونة بروائح الخمر ترخي أعصابي. سألتها عن الموضوع، فأجابت أن سامر زوجها، لديه أصدقاء كثر وشركاء في الأعمال، يحبّون  التمتّـع بحياتهم الليليّة. رحت أضايقها بتأففي وعدم رضاي عما يجري.

– “أوف!” أجابتني غاضبة. “لا تكوني معقّدة كأهلك. لماذا هذا النفور الذي ترتدينه كلّ ليلة، كأنك هابطة من طبقة راقية؟ سامر سعيد بك هنا، ويريد أن تكوني سعيدة”.

يوماً بعد آخر، اتّضحت لي الصورة النهائيّة لما يجري. يعمل صهري على تسهيل حصول الرجال البارزين في المجتمع، على النساء والمخدرات. الصبيتان في المنزل هما “بضاعة المتعة” لزبائنه، تضاف إليهما أختي التي شاهدتها مراراً تغادر المنزل ليلاً برفقة أحد الضيوف.

انتابني الغثيان لدى إطّلاعي على هذا العمل الرهيب، وقرّرت مغادرة هذه النتانة فوراً. دخلت إليَّ هيام وأنا أوضّب أغراضي في الحقيبة.

– “ماذا تفعلين؟”.

– “سأعود إلى طرابلس. لن أبقى في هذا الماخور”.

– “لا تكوني غبيّة. أنا لم أتزوّج سامر لأنني أحبه.أردت أن أحصل على كلّ ما أتمناه وأعيش حياة الرخاء”.

– “أيّ وسيلة وضيعة اخترتِ لتحقيق شهواتك! لا شيء يبرّر ما تفعلين. برغم سوء أهلي، لديهم الحقّ بالحكم عليكِ بطريقة قاسية”.

– “هم من دفعني في هذا الطريق. هل نسيتِ ماذا فعل بك أبوكِ؟ أيّ حياة كانت لي بينهم؟ الفقر طاردني إلى أقاصي الوحشة، ولا شيء يجعلك قويّة مثل المال. ابقي عندنا واسلكي درباً  جديـدة، فلديّ عروض رائعة بالنسبة إليك”.

– “لا أريد عروضك، سأرحل غداً صباحاً”.

وصلنا إلى مفاصل في الحوار ظننت بعدها أن هيام فهمت بشكل نهائي طبيعة موقفي من حياتها، وحقيقة شخصيتي. لم أدرِ إلى أيّ حدّ قادها الانحراف إلا حين سمعت عرضها الأخير:

– “اسمعي”، قالت بجدّية، “أودّ أن أطلب منك شيئاً، ولكن لا تبدئي بالصراخ والانفعال قبل التفكير بالموضوع”.

– “ما هو؟”. سألتها بحذر.

– “أخبرتني أنك بحاجة إلى عمليّة لقدمك وينقصك المال. سامر يرغب بمساعدتك ماديّاً، ولكنه يريد منك شيئاً في المقابل، وقد سألني مساعدته للحصول عليه”.

– “ماذا تقصدين؟”.

– “يشتهي أن ينام معك مرّة واحدة على الأقل، وهو مستعدّ بعدها لكلّ ما تطلبين”.

– “ماذا تقولين؟”. صرخت بجنون، ” تريدينني أن أنام مع زوجكِ!”.

– “قلت لكِ لا تنفعلي، الأمر جديد عليك، ولكن أين المشكلة؟ الأمر أشبه بتفريغ احتقان دموي، وينتهي بعدها كلّ شيء. الرجال تحرّكهم انتصاباتهم، فيفقدون بذلك حسّهم المنطقي ومداراتهم. لماذا لا تستفيدين من رغبته، بدلاً  مـن أن تستفيـد امرأة غيرك؟ “.

– “أيتها المرأة القبيحة، كيف تحاولين إقناع أختك بالارتماء في أحضان زوجك؟ أين كرامتك؟ كيف تقبلين حتى بفكرة كهذه؟ سأغادر هذا البيت ولا أريد أن أراك بعد اليوم”.

– “أنتِ حرّة. كنت أريد أن أبني علاقة جيدة معك، ولكنك ترفضين. افعلي ما يحلو لكِ”.

قالت هذا وغادرت الغرفة، وتركتني في ذهولي ومرارتي. انكبّيت بحرقة على توضيب أغراضي وأنا ساهية في دهاليز هذا العالم المقرف، حين دخل سامر الغرفة وأقفل الباب خلفه بالمفتاح. فوجئت بحضوره، فانتابتني رعشة الغيظ والخوف معاً.

– “ماذا تريد؟” سألته بجفاء.

– “هل حدّثـتك أختك بالموضوع؟”.

– “وهل ظننت أنني كنت سأقبل؟ لست من طينتها ولا من طينتك، سأغادر البيت فوراً جواباً على عرضك المغري”.

– “في هذا الليل!”.

– “لن تنهشني ذئاب الخارج أكثر مما كنت تريد أن تفعله بي”.

– “لن أدعك تغادرين بهذه السهولة، يحقّ لي أن أتمتّع بثمارك قبل أيّ شخص آخر”.

كانت شهوته مقرفة،  ولكنها أخافتني. شعرت بنفسي محاصرة ومهزومة. أحسست أنه لن يتوانى عن فعل أيّ شيء لتحقيق غايته. اقترب مني بشكل أضاء إنذارات الرعب في رأسي، فبدأ دماغي يحترق بشرارات التحاليل والمخارج الممكنة لهذا الوضع السيئ. قرّرت المناورة والتحايل خوفاً من أن يلجأ إلى العنف معي. أرخيت عروقي المشدودة، ونزعت وجه الاحتقار. وضع يده فوق كتفي وقبّلني في عنقي، فجلست على السرير ببطء حتى أستعيد ردّات فعلي الطبيعيّة. قلت له بهدوء:

– “سامر، لا يجوز أن تفعل هذا! أنا مازلت عذراء”.

– “هذا ما يثيرني فيك”. ردّ باشتهاء.

حاول الاستمرار في مداعباته، فتراجعت قليلاً وصدّيته بيدي، وقلت له:

– “لا يمكنني أن أفعل شيئاً بوجود أختي في المنزل. أرجوك أبعدها من هنا وأنا مستعدة للتجاوب معك”.

– “هيام تستحمّ الآن قبل الخروج إلى السهرة. وجودها لن يزعجنا”.

– “لا أستطيع، لا أستطيع”. أجبته بقلق من يريد شيئاً بقوّة ويعجز عن الحصول عليه. “دع الأمر لوقت لاحق. بعد عودتنا من السهرة سيكون الجو أكثر ملاءمة”.

قبّلني قبلة طويلة، وتنهّد بعدها بحسرة المشتاق وقال:

– “ولكن عديني بأنك لن تتهرّبي مني”.

– “أعدك. أحبّ أن تجري الأمور برغبة الطرفين وفي ظروف مناسبة”.

– “حسناً”، أفلتها كسكّين انتُزع فجأة من أحشائي.

– “استعدّي للخروج معنا”.

شهقت في بكاء مرير فور خروجه من الغرفة، وأنا أتساءل بألم أيوب بعد كلّ نكبة حلّت به، لماذا تقفز حياتي من خنجر إلى آخر؟ وما الذي ينتظرني بعد، من هذه العائلة التي تختزن أسوأ أنواع الشرور؟

انتهت التجربة الأولى بانتصار مرحلي، أكسبني ثقة بالنفس. خرجت معهما وأنا أعدّ نفسي لمواجهة التجربة الثانية. ساندتني الظروف بشكل لم أكن أتوقّعه. شرب صهري كثيراً تلك الليلة حتى انطفأ وعيه وارتخت مفاصله تماماً. فور عودتنا  إلى البيت، ارتمى فوق سريره وغاب في نوم عميق.

دخلت غرفتي وأقفلت بابها من الداخل. وفي الصباح الباكر، نهضت ووضّبت ملابسي، وغادرت كالعاصفة وكر الدعارة والقذارات.

لم يعد الكلام ينفع لوصف مشاعري والأحاسيس. كلّ الوباءات كانت تتكرّر كلعنة أطلقتها آلهة الغضب، في ظلمة زمان نازف. قرّرت أن أفك ارتباطي نهائياً بالوجوه التي روّعتني. شارفت على التغيير ولن أتراجع أبداً.

تابعونا : الجزء الثالث عشر

الكاتب والاديب سمير فرحات
الكاتب والاديب سمير فرحات

 اقرأ اجزاء الرواية :

الجزء العاشر

شكرا للتعليق على الموضوع