سجن الفراشة ” قصة واقعيّة ” ( 10 )

اقرأ : الجزء التاسع

باستثناء الغيوم العابرة التي ولّدتها زيارات أمي بين حين وآخر، لم أذق طعم المرارة يوماً في عيشي وسط امرأتين تمثلان بالنسبة إليّ الوجه الصالح للروح البشريّة. سرعان ما كان الحقد يختفي، وأستعيد عزمي على إصلاح تصدّعي.

أشهرت منى رغبتها بأن تكون أمي الحقيقيّة، الأم التي تحنو، وتهتم، وتوبّخ بغيرة ، وتلقّن ابنتها العلم والمبادىء معاً.

لا أدّعي أنها إنسان كامل، لكن لديها قلباً حاراً يكفي ليجعلها تتوق إلى الأفضل.

أفكّر اليوم أن قصتي لا تنتمي كثيراً إلى منطق الواقع وأحداثه. تمثّل بصورة مبالغ فيها الصراع الأبدي بين النور والظلمة.

ما يهمّني، ليس الحديث عن هذا الصراع، ولا إظهار ما يقدر الشرّ على إحداثه، وما يقدر الخير على إصلاحه.

 لقد سئمت مواجهة الآخرين لي بهذه الحقائق. في كلّ حياتي الجريحة لا أرى إلا طفلة بلا مقاومة لم تختر يوماً مصيرها. اختار لها أهلها المصير الأسوأ.

ليس بالضرورة أن تكون هذه الطفلة أنا بالذات، بل أيّة كائنة ضعيفة أخرى في هذا العالم الذي يعجّ بصراخ الظلم والأحزان. كنت محظوظة بالتأكيد لأني ارتطمت في سقوطي بحضن عائلة تكافح من أجل الخير. ماذا عن الأخريات اللواتي انهزمن أمام طغيان الأنياب المحيطة بهنّ، فتحوّلن إلى جاهلات أو ساقطات أو مضطربات الأعصاب والروح أو كلّ هذه الأمور معاً؟

عشت جنون المراهقة ولواعجها. اشتعلت على أنغام الموسيقى الصاخبة، وغطّيت الحيطان بصور الفرق الأميركيّة والوجوه الحالمة للمطربين. صادقت بعض الشبان، ولو بحذر شديد، واختبرت الاستقرار ومعنى أن تكون لديك مرجعيّة وفراش آمن.

أجريت عمليّة ثانية لقدمي، لم تؤدِ إلى نتائج باهرة، فسئمت عجزي ورجلي المجصّصة لفترات طويلة. بلغت السادسة عشرة وأنا كائن آخر، مختلف تماماً عن حنان الطفلة التي كنتها في ما مضى. ثم بدأت ألمح الحزن يختنق في صوت منى، ويلبس وجهها غلالة من الصرامة.

 أكثر من ذلك، شاهدتها مرّات عدة تبكي في الخفية، وحيدة، صامتة، وكئيبة. فاتحتها أخيراً بملاحظاتي:

– “منى،  ما الأمر؟  منذ أسابيع وأنت في حالة واضحة من القلق والصراع.  هل هناك شيء يجب أن أعرفه؟”.

– “حنان، لا أريد أن أخسرك”.

– “تخسرينني؟ لماذا تقولين هذا الكلام؟”.

– “لأنني سأفتقدك كثيراً”.

– “لا أفهم ماذا تقصدين. هل فعلت سوءاً؟”.

– “لم تفعلي شيئاً حبيبتي.  ليس هذا الموضوع. ولكن يبدو أنـك

نسيت تماماً أهلك”.

– “أجل نسيتهم، وما المشكلة؟ لا أريد حتى أن أذكرهم أو أتحدث إليهم أو أراهم! تعرفين كلّ شيء، وتعرفين الأسباب الكامنة خلف هذا الجفاء”.

– “لم أقصد هذا النوع من النسيان”.

– “إذاً؟ لماذا تحدّثينني بالألغاز؟”.

– “حنان، أهلك سيستعيدونك”.

تجمّدت من الخوف عند سماعي هذا الكلام. كيف يحصل ذلك؟ لماذا عليّ أن أغادر جنّتي؟ لا أحد يمكنه إجباري على ذلك!

لم أستوعب في البدء حقيقة ما ترمي إليه منى، ولكن سرعان ما بدأ القلق يتسرّب إلى عروقي ويصعق وضوحي ونضوجي.

– “أهلي سيستعيدونني!”، ردّدت بغضب. “ماذا تقولين؟ وبأيّ حقّ سيفعلون ذلك؟”.

– “نسيت بالطبع أمر العقد الموقّع بيننا. لا يحقّ لي استخدامك أكثر من ست سنوات”.

– “استخدامي! أنت لم تستخدميني. أنت أعطيتني الحياة، وانتشلت روحي من الوحول والقذارات. لا يحقّ لأحد أن يحطّمني من جديد”.

– “أعذريني حنان على استعمالي هذه العبارة القاسية. طبعاً أنا لم أستخدمك، أنت ابنتي وتعرفين هذا، لكنني أحاول أن أصف لك الأمور. بالنسبة إلى القانون، الأمر انتهى بيننا. بعد شهرين يمكن

لأمك أن تطالب بإعادتك إلى بيتها”.

– “وهل فعلت ذلك؟ أقصد هل ألمحت إليك برغبتها في استعادتي؟”.

– “لم يكن الأمر مجرّد تلميح. لقد طالب بك أخوك موسى بإلحاح”.

– “موسى؟ كيف اندلعت عاطفته الأخويّة فجأة؟”.

– “المسألة لا تتعلّق بالعاطفة بل بالمال؟”.

– ” ماذا تقصدين؟”.

– “أقصد أنهم يريدون ابتزازي! شقيقك على استعداد لتجديد العقد وإبقائك في بيتي، ولكن مقابل مبالغ ماليّة ضخمة”.

– “السفلة! لم تكفهم إعاقاتي التي اكتسبتها بدماء طفولتي المهدورة. كيف يسمح لهم القانون؟ لا شك في أن هناك طريقة ما لمواجهتهم”.

– “القانون لا يحميك منهم. العقد لا ينصّ صراحة على الاستخدام،  بل على نوع من الإيواء. وفي كلّ الأحوال، لديهم الحقّ بإعادتك إلى المنزل. إنتماؤك الديني، يجيز لهم أصلاً السلطة المطلقة عليك. بوفاة أبيك، أضحى شقيقك هو المسؤول الشرعي عنك، خصوصاً وأنك ما زلت قاصرة”.

– “إذاً الأمر جدّي!”.

– “أجل، ولهذا ترينني حزينة، ليس من أجلي فقط بل من  أجلك

أنتِ”.

– “بعد كلّ هذه السنوات، كيف أعود إلى هناك؟ ماذا أفعل بينهم؟ كيف أخاطبهم؟ عالمهم غير عالمي، وروحي لا تنتمي إلى بيئتهم العفنة. إنه الجحيم من جديد”.

– “لا، ليس جحيماً. أنت الآن فتاة ناضجة ولم تعودي تلك الطفلة العاجزة المغلوبة بجسدها وإرادتها. لقد تعلّمت واتسعت آفاقك، بإمكانك إيجاد العمل المناسب لك بانتظار ما سيحمله إليك المستقبل، ولا تنسي أن هذا بيتك، تزورينني ساعة تشائين وتمكثين عندي حين تحين الفرصة.

 لن تنتهي الأمور بيننا. المهم أن تظلّي قويّة ولا تنكسري أمام الفساد المستشري حولك. وحين تبلغين الثامنة عشرة، سيتغيّر كلّ شيء، أعدك بذلك”.

– “وأنت لن ترضخي لابتزازهم مقابل إبقائي لديك؟”.

– “لا يعقل أن أفعل ذلك، أولاً لأن ما يطلبونه يفوق إمكاناتي الماديّة.

والأمر الآخر هو أننا يجب أن نقف في وجوههم. أظن أن الوقت الذي ستمضينه بينهم، سيعلّمك الكثير. أنا أثق بعجينتك الصالحة. لا أرى مخرجاً آخر في الوقت الحالي”.

خلّف هذا الحديث في نفسي ضياعاً شديداً. كنت فعلاً قد نسيت كلّ شيء عن مسألة العقد، أو بالأحرى لم أرَ أن بإمكانهم أن يبيعوا روحي ويشتروها ساعة يشاؤون.

أصبت بانهيار مفاجئ،  وشاهدت بعجز وأسى العالم يتداعى من حولي.

 راحت جدتي ماري التي أضحت حركتها ثـقيلة تواسيني بعطفها ودموعها.

أرسلها الله في لحظة حاسمة من حياتي لتضع حدًّا لمأساتي، فتساهم في إنقاذ طفلة بائسة، متّسخة، مفلوجة بإعاقة قاهرة، ولا تنتمي إلى عائلتها وبيئتها ودينها.

 كان ذلك غاية في الغرابة والإنسانيّة. الآن، أشعر أن كلّ شيء انتهى. تقول منى إنني قويّة، فلماذا أشعر بهذا الاضطراب الفظيع؟ لقد تغيّرتُ ونمت أجنحتي، هذه هي المصيبة!

لو لم أذق طعم النور والاستقرار والعطف، لظلّت الأمور سهلة بالنسبة إليّ. كان كلّ شيء يبدو لي طبيعيًّا في ما مضى.

الإهانات، التحرّشات، العنف، الجوع، الخضوع، والعمل في المنازل. أيقظتني منى على الخطايا الكثيرة التي ارتكبت بحقّي. زرعت فيّ حسّ الثورة والرفض. ارتبكت الأحداث فجأة، وغدوت كملك مخلوع هائم بلا عرش ولا رعيّة.

لم تكفّ منى عن إرشادي وتقديم النصائح المتتالية إليّ. عرفت أنني سأعود إليها يوماً ما. لم يكن مكوثي لديها مجرّد محطة أخرى في حياتي، كان كياني يدور في فلكها وروحي تسكن العالم الجديد، بوجوهه ومعتقداته وعاداته وقيمه، وكلّ لحظة حفرت دعساتها في زمني قبل أن تمضي.

مضى شهران وحلّ وقت الرحيل. جاءت أمي برفقة موسى وصبيّة تكبرني بسنوات قليلة، عرفت في ما بعد أنها أختي الكبرى إبتسام. كنت بحقّ قد نسيتها تماماً.

 بدت منى في ذروة تعاستها، والعجوز تبكي بصمت وهي تحاول الإبتسام لي لتشجيعي. لم يفت أمي في بداية اللقاء أن تشكر المرأتين على المعاملة الحسنة التي لقيتها. تذكّرت أنها شكرت في ما مضى سلمى المفتون مراراً على احتضاني.

 كان كلّ ما تقوله مجرد كلمات فارغة من باب اللياقة والخضوع. لم تحسن يوماً التمييز بين ما يصلح لأولادها وما يمكن أن يفسدهم أو يهدّهم.

– “تعرفين سيّدة منى، أنه لا بد للابنة من أن تعيش بين أهلها. هذا هو قدرها”.

– “أعرف ذلك، ولكن أرجو أن تعرفوا أنتم هذا الأمر. حنان اليوم فتاة مختلفة، تعلّمت وخبرت الحرّية والهدوء، لا تثـقلوا عليها الحياة من جديد”.

– “عملها في البيوت كان مجرد مرحلة في حياتها. تعرفين، نحن ننتمي إلى بيئة يهمّها الفتاة المحنّكة في تدبير شؤون بيتها. لديها الآن خبرة واسعة في هذا المجال، وستكون في المستقبل زوجة ممتازة”.

– “لماذا لا تودّون أن تكون لكم ابنة مختلفة؟ لقد قطعت شوطاً مهماً حتى الآن، ويمكن أن تشقّ لها مستقبلاً باهراً. حنان فتاة ذكية ومميزة. أبقوها عندي وأنا سأعتني بها من كلّ النواحي.

 سأحاول تعليمها وتربيتها، وقد تدخل الجامعة وتخرج منها بشهادة. تعرفون مدى حبّي لها وعنايتي بها.

 أمي تعاملها كواحدة من حفيداتها. أنتم أهلها، ولا أحد ينكر عليكم ذلك. تزورونها ساعة تشاؤون،  وتزوركم كلّما أرادت، ولكن أتيحوا لها  فرصة

الخيار”.

– “لا يعقل أن نبقيها في بيروت ونحن نعيش في طرابلس. على أيّ حال، لقد وعدتُ ابن خالتها بها وهو ينتظرها لتكون زوجة له”.

جنّ جنون منى عند سماعها ما قالته أمي، فردّت بعصبيّة:

– “هل هذا هو كلّ ما يهمك، أن تزوجيها بابن خالتها؟ تظنين أنها ستقبل به؟ كيف تربطين مصيرها بهذا الشكل المتخلّف، كأننا ما زلنا نعيش في القرون الوسطى؟ حرام عليكم أن تحطّموها أكثر من ذلك!”.

– “الزواج ستر لها. إبتسام تزوّجت وأنجبت ابنة حتى الآن. لقد عملت في ما مضى في البيوت، وهي اليوم راضية عن حالتها ووضعها. ابن خالتها شاب لطيف ومهذّب، ستكون سعيدة معه ولا شك”.

استمر الحوار على هذه الوتيرة بين ضفّتين متباعدتين، وأنا مسكونة بالصمت والفجيعة. أقارن بين منطق منى ومنطق أمي وأرثي لحالي.

 كنت أريد أن أصرخ في وجهها، وأهينها كما فعلت في المرّات السابقة. لا أعرف لماذا اكتفيت بالكره والنفور.

تدخّل موسى للمرّة الأولى في الحديث، بعدما شعر برجاء منى العميق أن أبقى لديها. أراد الضغط على أعصاب الوجع لتلبية جشعه.

– “سيّدة منى، إذا كنت متحمّسة إلى هذا الحدّ لإبقاء حنان  فـي

بيتك، تعرفين الشروط. سبق وتحدّثنا عن هذا الموضوع هاتفيًّا.

نحن نعتبر أنك مستخدِمة وهي ستعمل لديك، ونريد حقوقنا على هذا الأساس″.

– “لن أشتري وجودها منكم. أحبّ حنان كابنتي،  وعلاقتنا لن تنقطع أبداً. قريباً سيتغيّر كلّ شيء في حياتها”.

– “كما تشائين”. ردّ بخبث.

دخلت إلى غرفتي لأوضّب حاجاتي، ولحقت بي إبتسام.

 فاضت دموعي كشلال أهوج، ولم أعد قادرة على ضبط تأوّهاتي ونشيجي. حاولت أختي التخفيف عنّي:

– “لا أفهم لماذا أنت حزينة إلى هذا الحدّ؟ كلّنا ننتظر عودتك إلى البيت لنعيش معاً من جديد. أنا وشقيقاتك بالكاد نعرف عنك شيئاً. صدقيني، أنا فرحة جداً بعودة إحدى شقيقاتي إلينا. وزّعتنا الأيام في الماضي، وحان الآن وقت اللقاء”.

– “لا أعرف أين كنت تعملين في الماضي، وكيف عاملك مستخدموك، لكنني ذقت هنا معنى أن تكون لديّ عائلة حقيقيّة.

أبي عاملنا كسلع مربحة بين يديه، وطاب لأمي أن تستلم الشعلة منه. لماذا تريدينني أن اشعر بالحنين؟ تريد أمي تزويجي كما زوّجتك، فأنشئ عائلة غبيّة وأرسل أطفالي إلى حقول العمل.

ما هذا التراث البشع؟ سأختنق هناك، سأختنق، لن أقوى على الاحتمال”.

كانت منى قـد زوّدتني بحاجات تفوق التصوّر. ملأت حقائبـي

بالثياب والأحذية، أهدتني آلة تسجيـل وأدوات أُخَر، وأرسلـت

معي أصنافاً مختلفة من الأطعمة والحلويات، ثم أعطتني مبلغاً كبيراً من المال.

حين خرجت بحقائبي إلى غرفة الاستقبال، بدأت بالارتعاش واحتقن وجهها بدماء الحرقة. عرفت أنها ستبكي وسيكون الانمزاق صاخباً وموجعاً. لم تقدر على احتمال تلك اللحظات المضنية، فوقفت بعصبيّة وركضت إلى غرفتها وهي تشهق، وأغلقت الباب وراءها.

اقتربت من جدتي ماري وغمرتها بمحبة صافية، ومزجت دموعي بدموعها. حاولت أن أودّع منى وأغمرها غمرتي الأخيرة، لكنها أقفلت على نفسها وسط بكائها الذي ضجّ في أرجاء المنزل. حمل أهلي الحقائب وترنّموا بها كأنّهم في نزهة. لفّتني الظلمة وأنا أخطو إلى الخارج، فسرت كميت خرج لتوّه من قبره العتيق وهام في الخرائب.

تابعونا : الجزء الحادى عشر

الكاتب والاديب سمير فرحات
الكاتب والاديب سمير فرحات

 اقرأ اجزاء الرواية :

الجزء الاول

الجزء الثانى

الجزء الثالث

الجزء الرابع

الجزء الخامس

الجزء السادس

الجزء السابع

الجزء الثامن

الجزء التاسع

شكرا للتعليق على الموضوع