يوميات دينا ابو الوفا … عارفين
برغم ما تمر به من ضغوط فى العمل ، الا ان ابنها الأصغر قرر دون اى تردد ، ان يضيف الى اعبائها واحمالها الثقيلة عبئاً وحملاً اخر…
فقد دخل عليها منذ ليلتين بينما هى مستلقية فى فراشها منهكة القوى ، معلناً لها وهو مطأطئ الرأس انه قد استلم شهادة نصف العام الدراسى الاول …
ولَم يتطلب الامر من الام ، مهارات ذهنية فائقة او درجة ذكاء عاليه لتعى ان الشهادة لا تحمل اى أنباء سارة …
ربما عاد ذلك الى لغة ابنها الجسدية و سحابة الحرج التى كست وجهه التى جعلاها تتنبأ بما تحمله الشهادة …
وربما أيضا عاد الى اعتيادها على هذا المشهد المتكرر الذى دائماً ما انتهى بنفس الحوار اللائم دون جدوى ….
أمسكت بالشهادة وألقت بنظرة خاطفة – تخلو من بريق امل – عليها فكانت جميع توقعاتها فى محلها … وكم تمنت لو ان ذكاءها يخونها هذه المرة فتعتذر لابنها عن سوء ظنها … لكنها للأسف لم تخطئ …
فما كان منها سوى ان ألقتها على المقعد بجانبها وقالت له باقتضاب “معنديش كلام أقوله … خد الشهادة بتاعتك واخرج … واقفل الباب وراك … عايزه انام”
لم يكن إعيائها الجسماني هو ما جعلها تختصر الحوار بل احباطها النفسي وحزنها الداخلي اللذين انقضا على كل مفردات اللغة داخلها ، كمن ينقض بوسادة على وجه احدهم ليموت مختنقاً …
ترك ابنها الغرفة وهو غير مصدق … فوالدته لم توبخه ، لم تنهره ، لم تعاتبه ، لم تناقشه !!
تركته هكذا لمدة يومين ، لا توجه اليه نظرة عابرة او حديث مباشر …. حتى خيم الصمت والسكون بينهما …. لكنه لم يكن يعلم انه “السكون الذى يسبق العاصفة”
فبينما كانت عائدة به الى المنزل بعد انتهائه من تمرين كرة القدم فى النادى ، التفت اليها قائلاً دون اى مقدمات “مامى فى مادة انا استاهل فيها نمرة أحسن ومتهيألى انهم غلطوا” …
جاءت إجابتها متشبعة بعنصر الكوميديا السوداء “مادة واحدة بس غلط ، ما يمكن كلهم غلط يا حبيبى… يمكن المدرسين كلهم غلطانين… يمكن يكونوا قرروا يتحالفوا ضدك”
“لا هى مادة واحدة” اجاب بصوت منخفض متقطع …
“خلاص روح كلم المدرس المسئول عن المادة واتفاهم معاه وراجع معاه النمر كلها… يمكن!!! انا شخصياً مش هروح ولا أتكلم… عارف ليه”
“ليه”
“لان حجتى مش قوية ومش فى الموقف الاقوى ولا على حق… وانا اتعودت معاندش وخلاص واتعودت متكلمش الا لو ليه حق …
لو انا شايفه ان ابنى بيذاكر وبيعمل اللى عليه وبيبذل مجهود وبيتعب كنت جيت معاك … كنت وقفت جنبك وساندتك … لكن دى الحقيقة النمر المتوقعه بعد استهتارك واستخفافك المتكرر”
عند هذا الحد انقطع بينهما الحديث حتى وصلا الى المنزل ، ودخل كل منهما ليبدل ملابسه فى غرفته …لكن الام لم تستطع ان تكبت ما بداخلها من مشاعر وصلت الى حد الغليان، اكثر من ذلك …فكيف لها ان تخمد ثورة بركان يشتعل بداخلها منذ فترة … فليثور وليكن ما يكون !!!
دخلت على ابنها فوجدته جالساً مع اخوته …
ربما كان يبحث عندهما عما يتوق اليه من كلمات حانيه تسقط على مسامعه فتواسيه او طبطبة رقيقة على الاكتاف تقويه ، فلم يجد شيئاً من ذلك بل التزما معه بمنهج الام الصارم !!!
وقفت الام فى منتصف الحجرة تنظر اليه …
لم تع بم امتلأت نظرتها اليه … أكان حباً ، أكان خوفاً ، أكان حناناً ، أكان صرامة وحدة ، أكان تأنيباً وتعنيفاً ، أكان عتاباً ، أكان استجداءاً ورجاء ، أكان أمراً وحكماً قاطعاً …
لم تدر ولكنها شعرت ان نظرتها تحملهم جميعاً معاً ، فعادة ما تكون تلك هى نظرة الام …. مزيج من كل ذلك !!!!
وبعد دقائق التزم فيها الجميع بالصمت ، انطلقت الام دون توقف …
” بص يا حبيبى … لو منتظر منى اطبطب آسفة انا مش هطبطب … ولو منتظر منى أقولك ولا يهمك ، أنسى مش هتسمعها… ولو منتظر منى اعديها وافوت صدقنى مش هعرف … ببساطة علشان بحبك … واللى بيحب حد مش بيضره وانا هبقى بضرك لو دلعتك وانت غلطان …
بص يا حبيبى … اسمع منى الكلمتين دول …
انا مش هقدر احدد لك هدفك فى الحياة ، انت اللى لازم تحدده …
عشان كده أول حاجه لازم تعملها تبص فى المراية وتسأل نفسك انا عايز أكون ناجح ولا لا … عندى احلام واهداف ولا لا … عايز أكون حاجه ولا لا … هعدى عالدنيا سايب بصمة ولا ناوى أمر فيها مر الكرام … لو إجاباتك اه يبقى تمام ، وفيه امل …
لكن بقى لو إجاباتك لا يبقى عليه العوض …. لان الطموح والرغبة فى النجاح لازم يكونوا نابعين من جواك ، مش حاجه اقدر اعلمهالك زى ما تقول كده حاجه لازم تكون فى هارد وير بتاعك ، لا فى ابليكاشن ولا سوفت وير ينفع ينزلوا ويظبطوا طموحك …
دى حاجات متقدرش تعلمها لحد …
متقدرش تقول لحد خليك طموح وحب النجاح …
متقدرش تجبر حد يكون عنده احلام واهداف …
دى اول نقطة ، تانى نقطة بقى انه بجد خسارة اوى انك تكون بذكاءك ده ويكون عندك كل الإمكانيات دى والقدرات دى ومش بتستغلها ….. حيرتنى معاك والله
عدم استخدام ذكائك هو دليل على الغباء …
فمعدتش عارفه “انت غبى وبتستذكى ولا ذكى وبتستغبى …. بس مش فارقه لان النتيجة واحده …. شخص بايع الحياة ومقضى اليوم بيومه”
استمع اليها- ومعه أخواته – دون ان يقاطعها
وحين توقفت اخيراً أجاب بثقة “انا عارف انا عايز أبقى ايه .. انا بحب الكورة وعايز أبقى لاعب كورة” …
“كورة !!!! وماله …. بس انت متخيل انك هتبقى محمد صلاح مثلاً …. على فكرة ممكن مش هقولك مستحيل لان مفيش مستحيل … بس خلينا نقول فى احتمال ٥٠٪ اه و٥٠ ٪ لا
هتعمل ايه بقى لو منجحتش كلاعب كورة …
بص يا حبيبى خلينا نفرق بين حاجتين مهمين اوى علشان نكون واقعيين
فى حاجة اسمها اكل عيش … شغل ومرتب واستقرار مادى وفى حاجه اسمها شغف وحب لشئ معين بجد سعادتى وراحتى فيه …
يا حبَّذا لو الاتنين يبقوا نفس الحاجه … يعنى يكون مصدر رزقك هو نفس الحاجه اللى بتحبها … ده يبقى عظمة لكن نادر اوى ما حد يكون محظوظ كده …
انا قدامك اهو بشتغل علشان يهمنى جداً مركزى الاجتماعي ويهمنى الاستقرار المادى ولأنى شخصية بتعشق النجاح وتحقيق الذات لكن شغفى وسعادتي فى ايه تفتكر” …
“فى الكتابة يا مامى …حضرتك بتبقى مبسوطة لما تكتبى “
“الله ينور عليك … أديك فهمت قصدى”
“بس حضرتك يا مامى نجحتى فى الاتنين “
“مين قالك ، انا لسه مش حاسه انى ناجحه ولا حتى حققت واحد على عشرة من احلامى”
“حضرتك كده مش ناجحه !!!!! امال النجاح يبقى ايه !!!!”
“اه مش ناجحه ، لسه بدرى … احلامى كبيرة … لكن عارف انا مش زعلانه ليه ….
لان عزائى الوحيد انى لما بحاسب نفسى بلاقينى مش مقصرة ، بلاقينى بعمل اللى عليه وببذل أقصى ما عندى … ومسيرى هوصل وحتى لو موصلتش يكفينى فخراً انى حاولت
انت بقى عزائك ايه … لما تكبر ويجرى بيك العمر وتراجع حساباتك هترد على نفسك تقولها ايه …. مش عايزاك تندم انك عشت على هامش صفحات الحياة كتابة بهتانه بقلم رصاص … عايزاك تكون احلى قصة فى كتاب “
خرجت من الغرفة وتركته …
تعلم انها كانت قاسية بعض الشئ ولكن بعض القسوة حب …

اقرأ للكاتبة :
يوميات دينا ابو الوفا … عارفين

