ما بعد البعد: التعقل زمن الفوضى
تقرير: ا. م. د. سامي محمود ابراهيم
رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة الموصل – العراق
جاءت ما بعد الحداثة لتقويض الميتافيزيقا والمقولات المركزية التي هيمنت على الفكر، كاللغة، والهوية، والعقل.
وقد استخدمت في ذلك آليات التشتيت والتشكيك والاختلاف والتغريب، وتقترن مابعد الحداثة بفلسفة الفوضى والعدمية واللامعنى واللانظام.
لذلك يتميز فكر ما بعد الحداثة بقوة التحرر من قيود التمركز، والانفكاك عن التقليد وما هو متعارف عليه، وممارسة الاختلاف والتفكيك والهدم والتشريح، والانفتاح على الغير عبر الحوار والتفاعل والتناص، ومحاربة البنية والانغلاق والتكامل، وتعرية الإيديولوجيات، والاهتمام بالمدنس والهامش والغريب والمتخيل والمختلف، والعناية بالعرق، واللون، والجنس، والأنوثة، وخطاب المابعديات المفتوحة.
يتفق الفلاسفة الالمان على أن مشروع الحداثة لم ينته بعد، حيث يواصل هذا المشروع سعيه لتحقيق أهدافه ، حيث الدور الفعال لوسائل الإعلام. فكل شيء هو النص والصورة ، إقناع المشاهد بكابوس من عالم الخيال العلمي او العالم الافتراضي، فهذا العالم هو بمنزلة استعارة أو مجاز عن حالة الواقع.
كما ترتبط مابعد الحداثة بفلسفة التفكيك والتقويض، وتحطيم المقولات المركزية التي هيمنت على الثقافة الغربية من أفلاطون إلى يومنا هذا. فهي موقف متشكك لجميع المعارف البشرية، وقد أثرت هذه المواقف على العديد من التخصصات الأكاديمية وميادين النشاط الإنساني.
كما تعد مابعد الحداثة عدمية تقوض أي معنى للنظام والسيطرة…. حداثة سائلة بمنتهى السيولة.
لذلك اعتمدت على التناص واللانظام واللاانسجام والنسبية، وإعادة النظر في الكثير من المسلمات التي تعارف عليها الفكر الانساني. ومن ثم، تزعزع ما بعد الحداثة جميع المفاهيم التقليدية المتعلقة باللغة والهوية.
هذا يعني ان نصوص مابعد الحداثة لا تتقيد بالمعايير المنهجية، وليست ثمة قراءة واحدة للنص، بل قراءات مفتوحة.
خاصة ان فكر مابعد الحداثة جاء كرد فعل على المقولات التي تحيل على الهيمنة والسيطرة والاستلاب. كما استهدفت مابعد الحداثة تعرية المؤسسات الرأسمالية التي تتحكم في العالم، وتحتكر وسائل الإنتاج، وتمتلك المعرفة العلمية. كما عملت مابعد الحداثة على انتقاد اللوغوس والمنطق عبر آليات التشكيك والتشتيت والتشريح والتفكيك.
هذا، وقد ظهرت مابعد الحداثة في ظروف سياسية معقدة، وذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخاصة في سياق الحرب الباردة، وانتشار التسلح النووي، وإعلان ميلاد حقوق الإنسان، وظهور مسرح اللامعقول، وظهور الفلسفات اللاعقلانية كالسريالية، والوجودية، والفرويدية، والعبثية ، والعدمية… وقد كانت التفكيكية معبرا رئيسا للانتقال من مرحلة الحداثة إلى مابعد الحداثة. ومن ثم، فقد كانت ما بعد الحداثة مفهوما مناقضا ومدلولا مضادا للحداثة. ولذلك، احتفلت مابعد الحداثة بأنموذج التشظي والتشتيت واللاتقريرية كمقابل لشموليات الحداثة وثوابتها، وزعزعت الثقة بقوانين العقل والسببية والأنموذج الكوني ، حاربت العقل والعقلانية، ودعت إلى خلق أساطير جديدة تتناسب مع مفاهيمها التي ترفض النماذج المتعالية، وتضع محلها الضرورات الروحية والتغيير المستمر، وتبجيل اللحظة الحاضرة المعاشة. كما رفضت الفصل بين الحياة والفن واتخذت التاؤيل والتاؤيل المضاعف قاعدة ومنهج.
من يتأمل جوهر فلسفات مابعد الحداثة، فإنه سيجدها فلسفات عدمية وفوضوية، تقوم على تغييب المعنى، وتقويض العقل والمنطق والنظام والانسجام. بمعنى أن فلسفات مابعد الحداثة هي فلسفات لا تقدم بدائل عملية واقعية وبراجماتية، بل هي فلسفات عبثية لا معقولة، تنشر اليأس والشكوى والفوضى في المجتمع.
وإذا كانت فلسفة الحداثة أو تيارات البنيوية والسيميائية تبحث عن النظام والانسجام، وتهدف إلى توحيد النصوص والخطابات، وتجميعها في بنيات كونية، وتجريدها في قواعد صورية عامة، من أجل خلق الانسجام والتشاكل، وتحقيق الكلية والعضوية الكونية، فإن فلسفات مابعد الحداثة هي ضد النظام والانسجام، بل هي تعارض فكرة الكلية. وفي المقابل، تدعو إلى التعددية والاختلاف واللانظام، وتفكيك ماهو منظم ومتعارف عليه .
اقرأ ايضاً | سامي ابراهيم يكتب : غسيل الزمن واثرنا المعكوس
كذلك رافقت ما بعد الحداثة تطور وسائل الإعلام، فلم تعد اللغة هي المنظم الوحيد للحياة الإنسانية، بل أصبحت الصورة هي المحرك الأساس للتحصيل المعرفي، ومعرفة الحقيقة. لهذا نجد جيل دولوز يهتم بالصورة ، ويعتبر العالم خداعا، كخداع السينما .
كما تتميز نصوص وخطابات مابعد الحداثة بخاصية الغموض والإبهام والالتباس. بمعنى أن دلالات تلك النصوص أو الخطابات غير محددة بدقة، وليس هناك مدلول واحد ، بل هناك دلالات مختلفة ومتناقضة ومتضادة ومشتتة تأجيلا وتقويضا وتفكيكا. وبتعبير آخر، يغيب المعنى ، ويتشتت عبثا في فلسفات مابعد الحداثة.
واخيرا تنكر فلسفات مابعد الحداثة وجود حقيقة يقينية ثابتة، فنيتشه مثلا ربط غياب الحقيقة بأخطاء اللغة وأوهامها. وجان بودريار الفيلسوف الفرنسي ينكر الحقيقة، ويعتبرها وهما وخداعا، كما يربط الحقيقة بالإعلام الذي يمارس لغة الخداع والتضليل والتوهيم والتفخيم.
ومن ثم، فقد أدلى جان بوديريار بمجموعة من المفاهيم، كالحقيقة العائمة، ومافوق الحقيقة، والاهتمام بالخيال العلمي، والعناية بالعوالم الافتراضية غير المتحققة. ومن هنا، فقد انتقد العلاقة بين الدال والمدلول عند فرديناند دوسوسير ، حيث أنكر كجاك ديريدا وجود معنى واضح، بل قال بالمعنى المغيب… ، حيث لايمكن لأحد أن يعيش أي تجربة ، وأصبح للعبث لهجة واضحة تلك التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية.
وهو القائل أن حرب الخليج عام 1991م لم تكن حقيقية، بل كانت حدثا إعلاميا ، إنها حرب دون أعراض الحرب. وهذا ماقاد العديد للشك في أن بودريار نفسه قد ابتعد إلى مافوق الحقيقة، ولم يعد يسكن جسدا دنيويا.
وعليه، فقد دفعه مفهوم مافوق الحقيقة إلى الاهتمام بالعوالم التخييلية والافتراضية.. وكما سبق الإشارة إليه وجدت رؤيته للعالم أصداء في السينما، وخصوصا في ذلك النوع من الأفلام الذي يصبح فيه الواقع الافتراضي غير مميز عن العالم الحقيقي.
ونستدعي أيضا من رواد فلسفة مابعد الحداثة المفكر الفرنسي جان ليوتار، الذي أنكر الحقيقة مثل: نيتشه، فالمعرفة برايه لا يمكنها أن تقدم الحقيقة ؛ لأنها تعتمد على ألاعيب اللغة التي هي دائما ذات صلة بسياقات محددة.
وأهم مايطرحه جان فرانسوا ليوتار في إطار مابعد الحداثة هو التحرر من الالتزام بالقواعد المنهجية والمعايير المسبقة.
ويعد جاك ديريدا كذلك من أهم فلاسفة مابعد الحداثة ، حيث اهتم بتفكيك الثقافة الغربية ، وتقويض مقولاتها المركزية بالنقد والتشريح، بغية تعرية المؤسسات الغربية المهيمنة. ومن ثم، فقد ثار دريدا على مجموعة من المقولات البنيوية كالمدلول والصوت والنظام والبنية، وغيرها من المفاهيم ، ودعا إلى تعويض الصوت بالكتابة ، وأن المعنى لا يبنى على الإحالة المرجعية، بل على الاختلاف بين المدلولات المتناقضة. كما أن ديريدا ينكر القواعد والتعاريف والمعايير والمنهجيات الثابتة. لذا، فالتفكيكية منهجية وليست منهجية، لها خطوات وليس لها خطوات، هي ما بين بين، بين الداخل والخارج. ما يهمها هو تفكيك الفكر والنص والخطاب ، وذلك عبر آلية التشتيت والتقويض والهدم، لبناء المعاني المختلفة والمتناقضة، والتشكيك في المسلمات اليقينية ، ودحضها عن طريق النقد والتشريح والاختلاف.
هذا، وقد انتقد جاك ديريدا الميتافيزيقا الغربية التي تمثل الحضور واللغة والدال الصوتي. ومن ثم، قوض مجموعة من المفاهيم السائدة، مثل: الهوية، والجوهر، واللوغوس، والعلامة، والمدلول،والظاهرة، والنظام، والكلية، والعضوية، والجوهر، والواقعية، والحقيقة، واليقين.
اقرأ ايضاً | سامي ابراهيم يكتب : جمال الحياة بين جناحي فراشة
هذا، ويعد ميشيل فوكو كذلك من رواد مابعد الحداثة ، وقد اهتم كثيرا بمفهوم الخطاب والسلطة والقوة ، حيث كان يرى أن الخطابات ترتبط بقوة المؤسسات والمعارف العلمية. بمعنى أن المعارف في عصر ما تشكل خطابا يتضمن قواعد معينة يتعارف عليها المجتمع، فتشكل قوته وسلطته الحقيقية. هذا، ولقد اهتم فوكو كثيرا بتحليل الخطاب ، ورفض التقيد بالمناهج الجاهزة، واستعمال آليات مكررة ، واعتبرها بمثابة علبة للمفاتيح. فالنص منفتح ومتعدد، لايمكن قراءته قراءة أحادية فقط. ويعني هذا أن فوكو يؤمن بتعدد القراءات واختلافها من قاريء إلى آخر.
ومن جهة أخرى، اهتم جيل دولوز بالتعددية والانفتاح على الآخر إدراكا وتفاعلا، حيث اعتبر الفلسفة بأنها فلسفة التعددية. ومن ثم، فقد انتقد الهوية وفلسفة الواحد والتطابق.
بيد أن من أهم سلبيات ما بعد الحداثة اعتمادها على فكرة التقويض والهدم والفوضى، إذ لا تقدم للإنسان البديل الواقعي والثقافي والعملي، فمن الصعب تطبيق تصورات مابعد الحداثة واقعيا لغرابتها وشذوذها. و” بذلك، استهلكت مابعد الحداثة قدرتها الإستراتيجية الفعالة في إبراز التحيزات المجحفة دون أن يكون لها موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي. ويعجب المرء من المفارقة بين قوتها العدائية ضد التحيزات والنهاية المحايدة التي تنجم عن مثل هذه الحرب الضروس. ولعل مثل هذه النهاية هي التي دعت الكثير إلى توجيه أصابع الاتهام. فهناك من يقول: إن هذه السمة ذاتها هي التي تجعل ما بعد الحداثة متواطئة مع الأشكال الشمولية القمعية التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة والظلم الاجتماعي الاقتصادي. لاغرو والحالة هذه أن تدخل ما بعد الحداثة مجال العلوم الإنسانية حديثا جدا، وحتى هذا الدخول لم يتسم بالفعالية نفسها التي عرفتها في الفن والأدب والموسيقا والاستعراضات المسرحية وغيرها من مشارب الحياة اليومية التي لايترتب عليها اتخاذ قرارات حاسمة تمس حياة الإنسان مباشرة. ولعل المفارقة القارة التي تجعلها عاجزة هي معاداتها للثنائية الضدية، إذ إن التضاد أساس المعرفة وأساس التحيز، وبدون التضاد لايمكن معرفة ما إذا كان توجه ما أفضل من غيره. ولذلك، فإن دفاع مابعد الحداثة عن الهامش جعلها تتقمص خصائصه، إذ انقلب على أهميتها، فأصبحت هامشية لا تغير من الواقع شيئا. وككل هامشي، أصبحت مابعد الحداثة تتمنى أن يتحقق الوئام فجأة ، فتسود العدالة، وتختفي الطبقية الهرمية، ويختلط المركز بالهامش، وتلغى الفوارق من غير تحيز أو غاية. هذه هي الطوباوية التي تحلم بها كل المثاليات: حداثية كانت أو مابعد حداثية.
ويلاحظ أن نظرية مابعد الحداثة تقوض نفسها بنفسها ؛ نظرا لطابعها الفوضوي والعدمي والعبثي. وفي هذا السياق، يقول دافيد كارتر:” وقد اجتذبت مابعد الحداثة نقدا إيجابيا وسلبيا على حد سواء. فيمكن أن ينظر إليها على أنها قوة محررة إيجابية تزعزع استقرار الأفكار المسبقة عن اللغة وعلاقتها بالعالم، وتقوض جميع لغات الذات التي تشير للتاريخ والمجتمع. ولكن تعد حقبة مابعد الحداثة أيضا أنها تقوض افتراضاتها الخاصة، وتحجب جميع التفسيرات المترابطة. وبالنسبة للكثيرين تعد غير مؤثرة وغير ملتزمة من الناحية السياسية.
وهكذا، نجد أن فلسفة مابعد الحداثة لها قيم إيجابية وقيم سلبية، بيد أن مايهم الإنسان في واقعه العملي هو التأسيس والتأصيل، وليس التفكيك والتقويض، مع السعي الجاد إلى البناء الهادف بدلا عن الانغماس في عوالم افتراضية عبثية وعدمية وفوضوية.
نستنتج مما سبق ذكره أن فلسفات ما بعد الحداثة عبارة عن معاول للهدم والتقويض والتفكيك، و تعمل جاهدة على تحرير الإنسان من المقولات المركزية التي تحكمت في الثقافة الغربية لأمد طويل فلسفيا وأنطولوجيا ولسانيا، مع تخليصه من الميثولوجيا الغربية القائمة على الهيمنة، والاستغلال، والاستلاب، والتعليب، والتغريب، وذلك عن طريق التسلح بمجموعة من الآليات الفكرية والمنهجية، كالتشكيك في المؤسسات الثقافية الغربية، وفضح أوهامها الإيديولوجية، وتعرية خطاباتها القمعية المبنية على السلطة والقوة والعنف، وإدانة خطابها الاستشراقي الكولونيالي، ومحارية التمييز العرقي واللوني والجنسي والثقافي والطبقي والحضاري.
بيد أن لمابعد الحداثة كذلك عيوبها الخطيرة، ومن أهم هذه العيوب أنها نظرية عبثية وفوضوية وعدمية وتقويضية تساهم في تثبيت أنظمة الاستبداد والقمع والتنكيل، وتجعل من الإنسان كائنا عبثيا فوضويا لاقيمة له في هذا الكون المغيب، يعيش حياة الغرابة والشذوذ والسخرية والمفارقة، ويتفكك أنطولوجيا في هذا العالم الضائع بدوره تشظيا وضآلة وانهيارا وتشتيتا.
اقرأ للكاتب
ازمة العقل في عصر ما بعد الحقيقة