توتو المُنحاز لإنسانيته وللحق الفلسطيني

تقريردكتور: محمد عمارة تقي الدين

تقرير دكتور: محمد عمارة تقي الدين

“على العالم أن يضع حداً لهذا الظلم الواقع على الفلسطينيين… يجب أن تنتهي هذه المهزلة”، تلك كانت الترنيمة الآثرة التي طالما رددها ديزموند توتو المناضل الجنوب إفريقي وكبير أساقفة جنوب أفريقيا الذي رحل عن عالمنا جسداً وبقي قيمةً وروحاً.

لقد رأي توتو أن الإنسانية لا يجب أن ترتبط بحدود، وأن القيم العليا لا تتجزأ، فانتقل من مناهضة الفصل العنصري في موطنه جنوب إفريقيا، إلى الانحياز للحق الفلسطيني حيث إدانة السلوك الإجرامي للصهاينة، إلى مساندة مسلمي الروهنجا في بورما إلى مناهضة سياسات موجابي في زيمبابوي وغيرهم، فهو يدور مع الحق حيث دار، وحيث كانت المظالم فهو وطنه.

إنحاز الرجل لإنسانيته مُلبياً نداء القيم الأخلاقية العليا، رغم أنه يعلم أن هذا الانحياز سيكلفه كثيراً، فالرياح العالمية تهب باتجاه الكيان الصهيوني، إلا أنه فضل السير في الاتجاه المعاكس حيث وعورة الدروب وقلة سالكيها، ومن ثم أعلن أن:” الاحتلال فعل بالشعب الفلسطيني ما لا يمكن لإنسان أن يقبله، وأن ما يتعرض له الفلسطينيون هو أسوأ مما كان يحدث في جنوب إفريقيا، إنه معسكر كبير للاعتقال، والفلسطينيون أسرى بداخله… إسرائيل هي أكبر معسكر اعتقال في التاريخ المعاصر”.

لقد دعا الفلسطينيين لاستلهام ما حدث في جنوب أفريقيا حيث حملات مقاطعة النظام العنصري، والدعوة لفرض العقوبات الدولية عليه وتبصير الرأي العام العالمي بحقيقة ما يجري على الأرض من ممارسات إجرامية.

كان نداؤه الأخير قبل وفاته هو للرئيس الأمريكي جو بايدن، إذ طالبه بوقف   المساعدات التي تقدمها بلاده لإسرائيل تلك التي تمارس القهر ضد الفلسطينيين، كما دعاه للنظر بعين الاعتبار للترسانة النووية الإسرائيلية التي باتت تمثل تهديداً وجودياً للمنطقة بأكملها.

أدان مساندة الإدارات الأمريكية المتعاقبة لإسرائيل، وأدان سلوك الولايات المتحدة المشجع لإسرائيل على عنفها، مؤكداً أن الولايات المتحدة قد دفعت لإسرائيل عبر السنين مساعدات تتجاوز ثلثمائة مليار دولار وهي مبالغ ضخمة جرى توظيفها لتكريس معاناة الفلسطينيين، هكذا تقوم الولايات المتحدة بمكافأة المجرم دون الانتصار للضحية.

رفض التراجع عن مواقفه المبدئية رغم الهجوم الضاري عليه من أتباع الصهيونية العالمية، كما وجه كثيراً من الخطابات للإسرائيليين مؤكداً أن صوت المدفع لن يشعرهم بالآمن، وأن السلام الحقيقي طريقه هو العدل، فقهر الفلسطينيين لن يحقق إلا مزيد من عدم الاستقرار، وكان يقول لهم :” كيف تعرّضوا الشعب الفلسطيني لهذا الكمّ الهائل من المعاناة وقد تعرضتم في السابق لمثلها من النازيين، حرّروا أنفسكم بتحريركم لفلسطين”.

لقد  أكد أن الفلسطينيين يدفعون ثمن الهلولكوست النازي، وأن  الغرب يشعر بالذنب تجاه إسرائيل لأن المحرقة قد ارتكبت في أرضه، لذا فهو يتجاهل ما يرتكبه الصهاينة بحق الفلسطينيين، وهو منطق مقلوب.

“نحن ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.. نحن ضد الظلم والعنصرية والإرهاب الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. ولكننا لسنا ضد اليهود”، ذلك هو أحد الهتافات التي صاغها توتو مطالباً المتظاهرين في بلاده بترديدها في العام 2014م حينما اندلعت المظاهرات ضد الكيان الصهيوني لما يرتكبه من جرائم في غزة .

اقرأ للكاتب | الإعلام وحروب الجيل الخامس

ومن ثم دعا لممارسة ضغوط حقيقية على الكيان الصهيوني محلية وعالمية، مؤكداً أنه لن ينسحب طوعاً من الأراضي الفلسطينية.

كان الرجل داعية أمل، إذ آمن أن:” بالأمل سننتصر وأن الاحتلال يريد دفعنا لخانة اليأس لنفقد قدرتنا على المقاومة” ، فقد أكد أن  النضال من أجل الحرية سينتصر حتماً في نهاية الأمر، فكل أنظمة الظلم إلى زوال، وهكذا كان كل من هتلر وستالين وموسوليني وبينوشيه وغيرهم، كلهم كانوا أقوياء جداً، ولكنهم في النهاية انهزموا هزيمة مُذِلّة.

في عام  1984 م حاز توتو على جائزة نوبل للسلام، إلا أنه في عام 2016 خاطب لجنة الجائزة لمنح الأسير الفلسطيني مروان البرغوثي جائزتها لأنه ناضل هو الآخر من أجل الحرية لوطنه.

لقد أكد توتو أن الفلسطينيين ليسوا إرهابيين، وإنما هم مقاتلو حرية يجب على المجتمع الدولي أن يحتفي بهم.

لذا منعته إسرائيل من دخول فلسطين ثلاث مرات في عام 2006م، فاضطر للدخول عبر الحدود المصرية، وشاهد ما حدث في غزة من دمار هائل حيث قال:” لقد ألمت بي حالة من الاستياء والألم الكبير عند زيارتي إلى الأرض المقدسة، لقد ذكرني هذا بما كان يحدث لنا في جنوب أفريقيا وقت الفصل العنصري”.

كان يقول للفلسطينيين:” إن كفاحكم هو في حقيقة الأمر أصعب من كفاحنا بكثير، فنظام الفصل العنصري الإسرائيلي أسوأ من الذي كان في جنوب أفريقيا؛ فهو مدجج بأحدث الأسلحة، إذ لم تقصفنا الطائرات المتطورة  لتقتل المئات من الأطفال، كما لم يكن هناك أسلحة دمار شامل، لا تنسوا هذا أبداً” .

كما أدان المطالب الإسرائيلية  للعالم بالاعتراف بيهودية الدولة مؤكداً أن ذلك هو تكريس للعنصرية.

كان لديه إدراك عميق بحقيقة الأديان السماوية في إصدارها الأول، وأنها بعيدة كل البعد عن العنف والإرهاب، ومن ثم كان يرى أن الإسلام لا يجب أن يتحمل مسؤولية ظهور التنظيمات المتطرفة مثل داعش والقاعدة، تماماً كما المسيحية لا يجب أن تتحمل مسئولية ظهور تنظيم (كوكلوكس كلان) الإرهابي والذي تواجد في أمريكا.

شارك في دعم حركة (مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها) المعروفة اختصاراً (BDS) بمجرد إطلاقها في عام 2005 م، وكان مؤيداً لكل قرار تتخذه الحركة، ومن ثم نعته الحركة واصفة إياه برسول العدالة والسلام.

قدم رؤية تحررية أخلاقية للمسيحية، أو ما يمكن أن نسميه لاهوت التحرير، حيث الدور المركزي للدين في التصدي للظلم الواقع على البشر، مؤكداً  أن  ممارسات الفصل العنصري منافية لتعاليم الديانة المسيحية.

اقرأ للكاتب| التربية الإعلامية: نحو استعادة الوعي في عالم مُعقَّد

كان يري أن توني بلير وجورج دبليو بوش هما من مجرمي الحرب الذين يجب أن يُقدَّموا لمحكمة لاهاي بسبب ما حدث للعراق.

كان يعتقد أن تحرر أفريقيا الجنوبية لن يكتمل ما لم تتحرر فلسطين، وأن الحرية يتحتم أن تكون كاملة وليس مجرد تحسين لشروط العبودية، لقد علَّمه تاريخه النضالي الطويل أن يرفض أنصاف الحلول،  ومن ثم كان يردد: ” نرفض أن نُعامل كممسحة أرجل تمسح الحكومة البيضاء أحذيتها عليها”.

 في مقالة له بعنوان ( نظام الفصل العنصري في الأراضي المقدسة)، أدان ما يحدث في فلسطين وصمت العالم إزاءه، بل وتعجب من إدانة النظام العالمي لكل من ينتقد إسرائيل إذ يتساءل” هل يُعقل أن كل من يتجرأ على نقد إسرائيل يجرى اتهامه بمعاداة السامية؟ “.

لقد مات الرجل تاركاً إرثاً نضالياً ذو حمولة إنسانية عالية، ومن ثم وصفه رئيس جنوب إفريقيا، بأنه الشخص المهم في تاريخ جنوب أفريقيا، كما وصفته مؤسسة نيلسون مانديلا بأنه كان إنساناً استثنائياً: مفكرًا وزعيمًا اتسم بعمق أطروحاته بشأن إرساء مستقبل تحرري للمجتمعات الإنسانية.

وفي التحليل الأخير، يمكننا القول أن الحياة قرار، وقد اتخذ ديزموند توتو قراره واختار الانحياز لإنسانيته رغم الثمن الباهظ الذي قد يدفعه، كان يمكنه، مثل كل رجال الدين، أن يتبنى خطاباً عمومياً، حيث الدعوة الإنشائية البيانية الجوفاء للمحبة والسلام في المطلق دون تحديد، لكنه آمن أن الإنسان موقف وأنه لا بد أن يدين الظلم ويسميه باسمه، فالحياد هو تأييد صامت للظالم، ومن ثم اختار الطريق الشاق، إذ لبى نداء الإنسانية بداخله وآمن أن عليه تبعة أخلاقية تجاه الفلسطينيين وعليه أن يصدع بما يحدث من ظلم مفرط ضدهم، وأن ما يجري من بشاعات بحقهم هو أمر يفوق ما كان يحدث في جنوب إفريقيا تحت حكم الفصل العنصري.

ومن ثم اتهم المجتمع الدولي بتقصيره بحق الفلسطينيين وعدم تدخله لحمايتهم من الجرائم الصهيونية.

لأجل هذا قاد المحامي الأمريكي الصهيوني آلان ديرشوفيتز حملة تشهير واسعة ضد توتو، إذ وصفه بأنه شرير وأنه أكبر معادٍ للسامية تأثيراً في هذا العصر، وأنه كثيراً ما كان يشبَّه إسرائيل بالدولة النازية.

غير أن هذا كله لم ينل من الرجل، إذ ظل قابعاً في بؤرة الضمير العالمي كبطل وأسطورة إنسانية قلما تتكرر.

لقد لقبه صديقه في النضال نيلسون مانديلا بأنه (رئيس أساقفة الشعب) فهو رجل الدين المثال، إذ انعجن في هموم وقضايا أمته كمثقف عضوي حقيقي، إذا جاز لنا أن نستعير من أنطونيو غرامشي.

لكن السؤال الذي يطل برأسه الآن: هل استطعنا نحن كعرب توظيف مواقف هذا الرجل وغيره في خدمة القضية الفلسطينية؟

بالقطع لا، فقد قصَّرنا كثيراً في هذا المضمار، غير أن الأمل لايزال قائماً، كما أرشدنا توتو، فنحن بحاجة للانخراط في مشروع تنويري حقيقي لتبصير العالم بحقيقة ما يجري في فلسطين متكئين على مواقف أمثال هؤلاء العظماء.

وأخيراً دعنا نردد مع المناضل الإنسان ديزموند توتو قوله:” لا نُريدُ قيوداً مُريحةً بل نُريد إزالتها“.

اقرأ للكاتب

الإعلام الديني: جدل الواقع والمثال

شكرا للتعليق على الموضوع