مصطفى جودة يكتب: هايزنبرج

أ.د: مصطفي جودة

رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا.

يبلغك الكثيرون أن الخبير هو الشخص الذي يعرف الكثير عن موضوع ما. إنى أعترض على ذلك التوصيف، وبالتالى أفضل أن يكون التعريف هو أن الخبير هو الشخص الذي يعرف بعضا من أفحش الأخطاء التي يتم ارتكابها في الموضوع وكيفية تجنبها.

هذه المقولة الحكيمة للعالم والفيلسوف الألمانى فيرنر هايزنبرج الذي كان يفخر دائما بأن الفلسفة وأفلاطون بالذات هما المكونان لعقله.

كان من فرسان نوبل العظماء ولد في الخامس من ديسمبر 1901، ومات في أول فبراير 1976، وفاز بجائزة نوبل وهو شاب في الحادى والثلاثين من عمره ليكون من أصغر الفائزين بها. إنجازاته تجعل حكايته وكأنه عاش أكثر من ألف سنة مثلما ذكرت في الحكاية الأولى عن جون جودإنف.

قبل الاستمرار في إنجازات هايزنبرج لابد من توضيح مفهوم أساسى عن طبيعة أبحاثه ومساهماته في تأسيس ميكانيكا الكم. ولكيلا نتوه في بحارها يكفي أن نذكر أنها العلم الذي يدرس حركة الجسيمات الذرية التي لا تخضع لقوانين الميكانيكا الكلاسيكية، ولذا تطلب الأمر ضرورة وجود محاولات كثيرة لصياغتها.

كان هايزنبرج واحدا من الذين تمكنوا من صياغتها بمساهمتين أساسيتين. تمكن وهو في الثالثة والعشرين من عمره من نشر نظريته في ميكانيكا الكم عام 1925، بقيامه بأول محاولة لصياغتها رياضيا بواسطة المصفوفات والتي لم تكن معروفة من قبل.

وفي عام 1927، وهو في الخامسة والعشرين من عمره اكتشف مبدأ أشد غرابة وهو مبدأ اللا تحديد أو عدم التأكد. هذا المبدأ ببساطة ينص على أنه لا يمكن قياس موقع الجسيمات وكمية حركتها آنيا، وهو الأمر الذي يمكن قياسه في الميكانيكا الكلاسيكية.

لقد مكنته قراءاته في الفلسفة من ذلك الاكتشاف الذي ساهم بقدر كبير في تطور ميكانيكا الكم. هذان الاكتشافان الإبداعيان تأتيان من خلال ما يسمى في الفلسفة بالتجربة الفكرية وهى عملية عقلية واختبار يقوم فيه الباحث بتخيل حل واقعى لافتراض أو نظرية أو مبدأ مستخدما المنطق لإيجاد حل لمشكلة معقدة. هذان العملان مكناه من الحصول على جائزة نوبل عام 1932. أقواله تفسر لنا إبداعاته العلمية. منها: قليلون يعرفون ما يتعين على المرء معرفته كى يدرك أنه لم يؤت من العلم إلا قليلا. ومنها: ما نلاحظه ليس الطبيعة ذاتها ولكنها الطبيعة التي تبديها طرق نظرنا إليها.

ومنها أن الكون ليس فقط أكثر غرابة مما نظن ولكنه أكثر غرابة من قدرتنا على التفكير. ومنها كلما تمعن النظر لشيء يقل إمعانك في النظر لشيء آخر. ومنها الحقيقة التي نتفوه بها ليست هى الحقيقة. ومنها: اللا تحديد لا يعنى عدم المعرفة ولكنه يعنى لا أستطيع المعرفة. ومنها: الطريق يأتى للوجود عندما نلاحظه. ومنها: المفاهيم العلمية الموجودة تغطى جزءا يسيرا من الحقيقة والجزء الباقى لا نهائي، وهو الجزء الذي لم يفهم بعد.

كان معتزا بجنسيته الألمانية وعندما زار جامعة ميتشجان الأمريكية في يونيو ويوليو 1939، عرض عليه أن يهاجر الى أمريكا، فرفض ذلك رغم أن كثيرا من العلماء هاجروا إليها في ذلك الوقت نتيجة معاملة هتلر لهم واضطهاده لبعضهم. نتيجة شهرته الواسعة في ألمانيا تم اختياره لإدارة مشروع تصنيع قنبلة ذرية، خصوصا أن ألمانيا كانت السابقة في اكتشاف أساسيات مبادئ تصنيع القنبلة الذرية قبل أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي. في عام 1938، نجح عالمان ألمانيان في اكتشاف عملية الانشطار النووي، حيث قاما بتجارب على ذرة اليورانيوم بقذفها بالنيوترونات مما أدى الى انشطارها وانبعاث طاقة كبيرة نتيجة ذلك. هذا الاكتشاف هو الذي دعا أينشتين وعالمين آخرين لإرسال خطاب للرئيس الأمريكى روزفلت بتاريخ 11 أكتوبر 1939، ينبهونه فيه الى خطورة ذلك على مجريات الحرب وأنه لا بد من البدء لإيجاد حلول لمواجهة ذلك، وهو الأمر الذي استجاب له روزفلت. كان ذلك الأمر هو المحفز لأمريكا للشروع في مشروع مانهاتن الذي تعرضنا له في مقالات سابقة والذي مكن أمريكا من تصنيع القنبلة قبل الجميع.

هناك فيلم اسمه: لاعب البيسبول كان جاسوسا تم عرضه عام 2018، يحكى قصة حياة لاعب بيسبول أمريكى كان يجيد العديد من اللغات تم تجنيده وإرساله الى أوروبا لمعرفة الدرجة التي وصل اليها البرنامج الذرى الألمانى الذي يقوده هايزنبرج، وعهد إليه أنه لو كان الأمر كذلك فلابد أن يقوم الجاسوس الأمريكى بقتل هايزنبرج.

عندما توصل ذلك الجاسوس الى أن هايزنبرج هو من أقنع هتلر أنه لا جدوى من تصنيع القنبلة الذرية وأن تصنيعها يحتاج خمس سنوات وأنه من الأفيد لألمانيا أن تركز على أسلحة تقليدية أخري. من أجل ذلك الاستنتاج لم تتم عملية اغتيال هايزنبرج.

كان عاشقا للموسيقى الكلاسيكية وعازفا بارعا للبيانو، كما كان مسيحيا متدينا. له مقولة تعكس ذلك: أول جرعة من كأس العلوم الطبيعية سوف تحولك الى ملحد، ولكنك ستجد الله في انتظارك في نهاية الكأس.

كان سعيدا في زواجه وأنجب سبعة أولاد، ونشر كتابا عن مراسلاته وزوجته. مات في أول فبراير 1976، وهو في الخامسة والسبعين من عمره نتيجة إصابته بسرطان في الكلية ودفن في ميونخ، تاركا سجلا حافلا من مئات الأبحاث الأصيلة وعشرات الكتب التي تربط الفيزياء والفلسفة لا يستطيعه إنسان عاش أكثر من ألف عام. شخصته زوجته إليزابث هايزنبرج في كتاب لها بعنوان: الحياة السياسية لشخص غير سياسي، نشرته عام 1980 بعد موته بأربع سنوات بقولها: كان إنسانا تلقائيا وعالما بارعا وفنانا موهوبا، ثم كان أخيرا ـ نتيجة الظروف والواجب الملقى عليه ـ سياسيا على مضض.

gate.ahram

اقرأ للكاتب

مصطفى جودة يكتب: لا تعتزل مبكرا

شكرا للتعليق على الموضوع