مصطفى جودة يكتب: لا أسمعك

الغرب لا يريد أن يسمع أو يهتم وليست لديه النية مثلما هى حاله دائما فى مشكلة الصراع الفلسطينى-الإسرائيلى. فهم الأحداث والأسباب التى تؤدى الى تفجر الأوضاع لاتهمه، إضافة الى أنه لا توجد لديه القوة الدافعة لحل المشكلات المستعصية التى يعرفها المسئولون به ولكن شعوبه لا تدرى عنها كثيرا إلا فى مؤسساته المهتمة.

هناك حادث كاشف ومفسر فى فهم ما يحدث فى حرب حماس وإسرائيل الحالية. كان هناك عشاء الحفل السنوى الذى تقيمه اللجنة الأمريكية القومية لحقوق الإنسان بقاعة المؤتمرات بواشنطن العاصمة بتاريخ 14 أكتوبر الماضى، وكان الرئيس الأمريكى والسيدة زوجته مدعوين لذلك العشاء، وألقى الرئيس بايدن خطابا فى هذه المناسبة. عندها ارتفع صوت احتجاج مقاطعا لحديث الرئيس: دع غزة تعيش وأوقف إطلاق النار فى غزة.

 عندها قال الرئيس: لا أسمعك. تكرر الاحتجاج. فرد الرئيس قائلا : أيا ما تقولين فإنى لا أسمعك، ولكنى متأكد أنه ليس بالأمر الجيد. عندها علا صوت الحضور للطرمخة على ما تقوله السيدة المحتجة بترديد: نريدك رئيسا لأربع سنوات أخرى.ثم استمر الرئيس فى حديثه عن دعم إسرائيل المطلق ليضيع مجهود السيدة المحتجة هباء منثورا.

 لو أننا تأملنا هذا الحديث العفوى لفهمنا كثيرا من التفسيرات التاريخية لما حدث ويحدث وسيحدث فى الشرق الأوسط، وأن المواقف تتكرر وستتكرر، وكأن هناك كتالوجا واضح الخطوات. هذا موسم الانتخابات الرئاسية والرئيس بايدن يعرف من يخاطب. هو موسم يجب ألا ينتظر أحد فيه أن يغامر الرئيس الذى يريد ويطمع فى إعادة انتخابه وخصوصا ما يلحظه الجميع من تدهور كل من شعبيته وصحته وتراجعه الكبير فى استطلاعات الرأى.

هناك عامل آخر يجعل إدارته مختلفة عن سابقاتها، وهو أنه فى غالبية الإدارات السابقة كانت هناك وجهات نظر مختلفة بين الوزارات المؤثرة مثل وزارة الدفاع ووزارة الخارجية على سبيل المثال. عندما نشبت حرب أكتوبر كانت هناك إدارة الرئيس الأسبق نيكسون وكان هناك اختلاف كبير حينها بين وجهة نظر وزير الدفاع جيمس سلزنجر وكيسنجر وزير الخارجية. كان سلزنجر معارضا للجسر الجوى الكبير لإسرائيل وكانت وجهة نظره أن أمريكا قد أمدت إسرائيل بجميع الاحتياطى الأمريكى من الأسلحة الموجودة فى القواعد الأمريكية الموجودة خارج أمريكا لدرجة تهدد الأمن القومى الأمريكى، وهو ما يكفى ويعوضها عما فقدته فى الحرب. نقيض ذلك كان كيسنجر وزير الخارجية يريد الجسر الجوى ليضمن لإسرائيل البقاء والتفوق بأى وسيلة خصوصا بعد هزيمتها القاسية من الجيش المصرى، وكانت حجته التى اقتنع بها الرئيس نيكسون أن ذلك سيقوى موقف إسرائيل فى التفاوض بعد الحرب.

هذا لا يحدث فى إدارة الرئيس بايدن حيث تتوافق وجهتا نظر كل من وزير الدفاع ووزير الخارجية. فى عهد نيكسون أخذ الجسر الجوى أكثر من أسبوع، أما فى عهد الرئيس بايدن تم ذلك بالطائرات كما تم إرسال حاملات الطائرات فور بدء هجوم حماس مع توعد وتهديد لكل من تسول له نفسه من الدول المحيطة بمد يد المساعدة لحماس. أيضا فور هجوم حماس لم يذهب رئيس الوزراء الإسرائيلى الى واشنطن مثلما فعلت جولدا مائير، حيث ذهبت وطلبت من كيسنجر وهى تنتحب إنقاذ إسرائيل من هزيمة نكراء من الجيش المصرى تلوح فى الأفق، على النقيض حضر الرئيس الأمريكى بنفسه وهو الأمر الذى لم يحدث فى التاريخ الأمريكى كله. كما أرسل وزيرى الدفاع والخارجية ليعطوا إسرائيل شيكا على بياض فيما ستفعله بغزة ووعدوها بالمال والسلاح والدعم المعنوى وزيادة.

عندما رأى حكام أوروبا ذلك قدموا جماعات وفرادى وكأنهم مجاهدون فى معركة عقيدة وشرف، كل يعرض أيضا شيكا على بياض، وكأنهم يقدمون فروض الطاعة. كان هناك عامل آخر هو الذى يجعل الرئيس بايدن غير مهتم بتقديم أى مبادرة لحل القضية الفلسطينية، وهى أنه لم ينجح فى ذلك المسعى رئيس من السابقين له عدا الرئيس كارتر والذى نجح بفضل صبر وحكمة الرئيس السادات حينها، أما الباقون فلم تؤد مبادراتهم الى شىء يذكر فى نهاية الأمر.

هذا الفشل هو الذى جعل مصر تفقد الأمل فى الحل السلمى بدون حرب. فهمها السادات وأدرك أنه يتعين عليه أن يخوض حربا مصيرية يهزم بها إسرائيل وتمنحه اليد العليا فى مفاوضات السلام. استعد لذلك وحقق لمصر نصرا مبينا جعل من خلاله أمريكا تتخلى عن تقاعسها فى عملية السلام التى استمرت ست سنوات بعد الحرب لتتحقق فى اتفاقية كامب ديفيد، وكان فيها المنتصر فى السلام عام 1979، وقبلها المنتصر فى الحرب عام 1973. من أجل ذلك قال الرئيس بايدن للسيدة المحتجة على الحرب أنا لا أسمعك رغم أنه يسمعها ويعلم ما تقول. كل كلماته ومسالكه فى هذه الحرب تعكس قسوة ما سبقه بها أحد من رؤساء أمريكا السابقين. قوله إسرائيل لها الحق وعليها واجب الرد على هجوم حماس الشرير، وأنى أبلغت رئيس وزراء إسرائيل لو أن الولايات المتحدة تعرضت لمثل ما تعرضت له إسرائيل لكان رد فعلها حاسما وسريعا. وقوله لم أطلب من نيتانياهو تأجيل الهجوم البرى حتى يتم تحرير الرهائن ولكن طلبت منه تحرير الرهائن بشكل آمن. قوله أيضا يوم 25 اكتوبرعندما سئل عن مقتل اكثر من قرابة سبعة آلاف من غزة، أجاب بأنه لايثق فيما تقوله وزارة الصحة الفلسطينية والأمم المتحدة ولا يسمعهما مثلما لم يسمع صوت السيدة المحتجة. أيضا قوله ليس هناك أدنى شك فى أن الولايات المتحدة مع إسرائيل، وأنها ستحمى ظهر إسرائيل. هذا تأويل عدم سماع احتجاج السيدة.

أ.د: مصطفي جودة

رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا.

gate.ahram

اقرأ للكاتب

مصطفى جودة يكتب: تغطية حرب حماس وإسرائيل «2 ــ 2»

شكرا للتعليق على الموضوع