مصطفى جودة يكتب: «اغتصاب» الجماهير

أ.د: مصطفي جودة

رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا

بتاريخ مايو 1939، وقبل اشتعال الحرب العالمية الثانية بخمسة أشهر صدر كتاب اغتصاب الجماهير للكاتب والعالم الروسى سيرجى تشاخوتين باللغة الفرنسية، وتم نشره باللغة الإنجليزية عام 1940، أى بعد شهور من بداية اشتعال الحرب.

 كان الكتاب محذرا ومنذرا من تأثير البروباجندا التى كانت ثمة المرحلة السابقة للحرب، ثم أصبحت أداة جهنمية كما ذكر حتى وقتنا الحاضر. كان المؤلف عالم أحياء وعالم اجتماع أيضا، ومن خلال الجمع بين الجوانب السياسية والنفسية استطاع توضيح أن استخدام البروباجندا فى المانيا النازية كان ذا أثر بالغ على نفسية الجماهير، مما جعله يصفها بأنها ليست عملا إعلاميا، ولكنها عمل عدوانى يشبه الاغتصاب النفسى لتلك الجماهير، وأنها تدمر الاستقلال الفكرى للأمم. لايزال الكتاب هو المرجع الأهم فى مجال البروباجندا الذى لا غنى عنه لفهمها ومواجهتها. مكنته خلفيته العلمية الى تنظير أن الدعاية تعمل على مستوى العقل الباطن مستغلة المشاعر الإنسانية مثل الخوف والغضب والانتماء مما يجعل الأفراد يتصرفون وفقا لما كانت تريده السلطة النازية. شبه تشاخوتين البروباجندا بعملية الاغتصاب، لأنها لا تقتصر على التأثير السطحى، ولكنها تتغلغل فى أعماق العقل الجمعى للجماهير والأمم مما يؤدى الى تدمير القيم والأفكار المستقلة.

 تلك هى المخاطر المدمرة للقيم الإنسانية وتشويهها عبر التلاعب بالعقول وتعجيز عملها وسلب إرادتها وتدمير هوية أمة بأكملها مثلما حدث فى ألمانيا نتيجة التعرض لفيضان البروباجندا فى زمن النازية التى حذر منها الكتاب والتى تجعله صالحا لكل الأزمنة.

كل هذا أدى الى زرع الكراهية والانقسام بين الشعوب وتحويل الجماهير الى كتلة واحدة وتضليلها بحيث تخضع للأوامر النازية التى كانت تنشد استمرار الحروب والصراعات حينها. يتميز الكتاب بمزجه بين علم النفس والاجتماع والسياسة مما يجعله عملا فريدا وغير مسبوق. ورغم مرور 85 عاما على صدوره، إلا أنه أصبح أكثر أهمية فى زمننا هذا فى ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعى والذكاء الاصطناعى والقدرة على التلاعب بالمعلومات التى تنتشر عبر الإنترنت مما يهدد الحقيقة والمجتمعات خصوصا مع وجود متربصين ومستهدفين وأصحاب مصالح.

 تقع الطبعة الأولى للكتاب فى 317 صفحة تشمل مقدمة وأحد عشر فصلا واستنتاجات.

 يناقش تشاخوتين فى تلك الفصول مفهوم البروباجندا واستخدامها المكثف، موضحا أنها أداة تهدف الى تشكيل الرأى العام وتوجيه سلوك أفراده.فى البداية يعرف البروباجندا بأنها وسيلة منظمة تهدف الى التأثير على عقول الأفراد ومسالكهم من خلال عملية التلاعب النفسى الذى يشمل التأثير العاطفى والتكرار والبساطة واستخدام الرموز والشعارات، ويركز على أن البروباجندا تعتمد على فهم علم النفس، وأنها تعمل على استثارة مشاعر الخوف والغضب والفخر، وأن رسائلها تصاغ بأسلوب بسيط يتم تكراره كثيرا ليترسخ فى العقل الباطن، وأنها تستخدم الشعارات والرموز لتعزيز الانتماء.

 ويشرح الأسس النفسية التى تجعل البروباجندا فعالة مثل استهداف اللاوعى والتركيز على المشاعر بدلا من العقلانية، ويستعرض الأدوات التى استخدمتها النازية فى دعاياتها مثل الصحف والإذاعة والسينما والملصقات والخطب الجماهيرية الرنانة واستخدام الرمزية.

 وناقش كيف استخدم هتلر وجوبلز البروباجندا لترسيخ مبادئ النازية وتمجيد القومية ومعاداة اليهود. ويشرح أنه فى الحرب العالمية الأولى ركزت البروباجندا على تعبئة الجماهير ضد العدو من خلال نشر الكراهية والخوف، وأنه قبل نشوب الحرب العالمية الثانية مباشرة استخدمت لتبرير السياسات العدوانية، وتحويل الحروب الى صراعات ايديولوجية، وأنها تقوم بتحويل الجماهير الى مجرد أدوات خاضعة للسلطة، كما أن تلك البروباجندا تعزز الانقسام المجتمعى وتحث على الكراهية بين طبقاته المختلفة.

 كما أنه يركز على دور الرموز والشعارات فى تقوية وتعزيز الرسائل الدعائية. كما أنه قدم مقترحات عملية لمواجهة الدعاية السلبية من خلال تعزيز التعليم والتوعية لتحصين الأفراد ضد التأثير النفسى، ودعم الإعلام المسئول، ويشدد على أهمية حماية المجتمعات من الانقسامات التى تثيرها الدعايات المغرضة.

يقدم لنا تشاخوتين استنتاجات مهمة فى نهاية كتابه فى تسع صفحات كاملة تلخص رؤياه للبروباجندا وتأثيرها على الأفراد والمجتمعات مركزا على الجوانب النفسية والسياسية والأخلاقية، وتهدف أيضا الى تحذير المجتمعات من مخاطرها، وضرورة وضع أسس لمواجهتها. يرى تشاخوتين أن كلا من النازية والفاشية استغلتا هذه الأداة الجهنمية لتحويل الشعوب الى مجرد أدوات خاضعة تماما لإرادة القائمين عليها، ويصف ذلك بقوله: «حرصا على مصالحهم وتحقيق مآربهم يعرضون جماهيرهم الى عملية اغتصاب نفسى، وبالتالى يتصرفون بناء على ما تمليه عليهم مشاعرهم، بدلا من استخدام عقولهم، وأن البروباجندا الفعالة لا تستهدف العقل بل تستولى على القلوب لتحرك الجماهير كما لو كانت أدوات بلا وعى». ويقول: «البروباجندا هى عدو للديمقراطية عندما تستخدم للتلاعب بالرأى العام بدلا من تثقيفه». يركز تشاخوتين على أهمية التعليم فى مواجهة البروباجندا، ويؤكد أن المواطن المتعلم والواعى يكون أقل عرضة للتأثر بالبروباجندا، كما أنه يدعو الى ضرورة تعزيز التفكير النقدى كوسيلة لمواجهة الأكاذيب والمعلومات المضللة، وأن عملية كشف البروباجندا يساعد فى تقليل تأثيرها، ويقول بهذا الصدد: «فقط من يفهم كيف تعمل البروباجندا يمكنه أن يحمى نفسه منها». «حماية الأمة من الاغتصاب الفكرى ليست مهمة فردية، بل هى مسئولية جماعية تتطلب وعيا وإرادة». «فى كل عصر ستكون هناك معركة بين من يسعى للتحكم فى العقول ومن يقاوم للحفاظ على الحرية». حسنا ما يفعل السيد رئيس مجلس الوزراء د. مصطفى مدبولي من خلال تصديه الفوري وبشفافية للدعايات والشائعات التي تتعرض لها مصر وخروجه المكثف للتوضيح واتخاذ قرارات فورية لوأد تلك الدعايات والشائعات المغرضة فى مهدها لأن هذا هو السبيل الأهم فى مواجهتها وهزيمتها.

gate.ahram

اقرأ للكاتب

 مصطفى جودة يكتب: الدعايات والشائعات

شكرا للتعليق