شوقي العيسة يكتب : من الماضي ( 5 )
قبل عام 1978 كنا انا واصدقائي نسجن في معسكرات جيش الاحتلال وليس في السجون الرسمية ، ذلك اننا كنا تحت السن القانوني اي اقل من 16 عاما والسجون لا تقبل بنا ، وتلك الفترات التي امضيناها في معسكرات الجيش وخاصة في (البصة) في بيت لحم ، والتي اصبح مكانها الان المقاطعة ، كانت كفيلة بمضاعفة حقدنا على الاحتلال ، حيث كان الجنود يتفننون في تعذيبنا ، بسبب او بدون سبب ، وبعد ان تجاوزنا عمر ال 16 اصبحت السجون تستقبلنا على الرحب والسعة ، الخليل ونابلس وجنين ورام الله وغيرها ، سجن الخليل كان سيئا في الشتاء اكثر من الصيف لوقوعه على تلة عالية ، والبرد شديد، وكان قسم التحقيق فيه نوعين من الزنازين ، في الطابق الارضي كانت تسمى الاكسات وكانت واسعة مقارنة بزنازين الطابق الثاني ، في الطابق الثاني كانت الزنزانة بالكاد تتسع لشخص واحد ، وكانت الزنازين على جانبي كوريدور ربما كان طوله عشرة امتار ، تذكرتها حين زرت مخيم للاجئين الفلسطينيين في بعلبك في لبنان كان قديما معسكر للجيش الفرنسي ولكن في المخيم كان الكوريدور اطول والغرف على الجانبين اوسع. وكانت التعليمات لكل سجين في الزنزانة انه يمنع عليه الكلام نهائيا ، واذا اراد شيئا عليه فقط ان يقرع باب الزنزانة ليأتي الحارس ويفتح طاقة صغيرة في الباب ليعرف ماذا تريد ، وما تريد معروف اما الذهاب الى الحمام او اشعال سيجارة من الاربعة التي تحصل عليها كل يوم ، خطرت في بالي فكرة ليتها ما كانت ، فقد تسببت لي بوجبة تعذيب لم يكن لها ضرورة ، كنت اريد معرفة اذا كان احد اصدقائي الذي اعتقل قبلي بيومين موجودا في نفس القسم ، كان الحمام في نفس الجهة التي فيها زنزانتي في نهاية الكوريدور، ولكي اصله علي ان امشي بطول الكوريدور ، فقررت ان اطلب الذهاب الى الحمام وخلال المشي ان اتحدث بصوت عالي املا في ان يعرف صديقي ويرد اذا كان موجودا ، بدأت المشي ولكني لم اكن قد قررت ماذا اقول وكان اول ما خطر في بالي اغنية لفيروز كنت سمعتها في الباص في يوم اعتقالي وهي حبيتك بالصيف ، وكنت وصلت نصف المسافة تقريبا وما ان انهيت كلمة حبيتك حتى هوت هراوة الحارس الذي كان يتبعني بين كتفي بقوة ، لا ادري لماذا لم اكن اتوقع ذلك فسقطت سقوطا حرا كما يقال ودون تحكم ، وكان مؤملا جدا ، وخلال وقت قياسي وصل حارس ثاني وجراني الى غرفة من غرف التحقيق وجاء جنود اخرون (ليآجروا) وكانت وجبة كاملة احتوت كل انواع الضرب ، وفشلت الخطة دون ان استفيد شيئا.
بعد انتهاء فترة التحقيق تم نقلي الى قسم الموقوفين ، وقبل دخول القسم كانوا يرشون الموقوف بمادة بيضاء مثل الشيد لقتل الحشرات والميكروبات وما شابه ، كانت مثل الماكينة التي ترش بها الاشجار كنا نسميه دي دي تي .
في غرفة التوقيف كنا حوالي عشرين ، اكثر من النصف من فتح وكان ثلاثة من الجبهة الديموقراطية وبعد وصولي بيومين احضروا شابا من الجبهة الشعبية من الدهيشة ويبدو انه مكث طويلا في زنازين التحقيق لان شعره كان طويلا ومن النوع غير المالس (مهيش او مقطقط ) وبعد رشه بالمادة البيضاء كان المنظر غريبا وضحكنا كثيرا عليه . في هذه الغرفة فرحت بوجود احد اصدقائي من المخيم كان مشهورا بصوته الجميل والعالي وكان يتولى مهمة الهتاف في المظاهرات ، وكان غير آبه بالمدرسة ولا يقرأ وكان قد ترك المدرسة والمخيم قبل حوالي سنة من ذلك التاريخ ، وتفاجأت حين وصولي الغرفة انه احد الفتحاويين الموجودين فيها ، مع انه كان محسوبا على الشعبية قبل مغادرته المخيم . كان اللقاء به مفرحا وعلمت منه انه ذهب الى الاردن ومن هناك الى سوريا وتدرب في احد مراكز فتح لعدة اشهر ، واثناء عودته اعتقل على الجسر . خلال وجودنا في تلك الغرفة اخذت كتابا من احد الرفاق لقراءته وكان كتاب (نقد فكر المقاومة) ، وقتها كانت فتح في السجون قد قررت منع اعضائها من قراءة هذا الكتاب ، واراد صديقي الفتحاوي والذي جاورني بالبرش ان يقرأ الكتاب ، مع انه يكره القراءة واظن لم يسبق ان قرأ كتابا ولكن يبدولي اراد فقط تحدي القرار الغبي ، وطبعا عاقبته فتح على فعلته النكراء اعتقد اسبوع نيكيون اي تنظيف . وبعد عدة ايام اخبرني الحارس بان احد المحكومين طلب زيارتي ، واذا به احد ابناء العمومة والذي كنت اعتقد انه في سجن اخر ، وهو ايضا كان قد ترك المخيم قبل حوالي سنتين واجتاز نهر الاردن تهريبا وبعدها تهرب من الاردن الى سوريا ، وفي سوريا اعتقل لانه دخل تهريبا وبعد فترة سلمته سوريا للاردن ومكث في سجونها الى ان سلمته لاسرائيل والان يقضي حكما اعتقد سنتين ونصف .
وللحديث بقية …………
اقرأ للكاتب سلسلة من الماضى :